كشف تحقيق موسّع لوكالة "رويترز"، الأربعاء 30 يناير/كانون الثاني 2019، عن تورُّط الإمارات في تجنيد عملاء سابقين بوكالة الأمن القومي الأمريكي والاستخبارات الأمريكية، لأغراض التجسّس على "أعدائها"، وقرصنة هواتفهم وحواسبهم، من بينهم زعماء عرب.
وبحسب "رويترز"، فإن المشروع الإماراتي السري أُطلق عليه اسم "رافين"، أو "الغراب الأسود"، وهو فريق سري يضم أكثر من 12 عميلاً من الاستخبارات الأمريكية، من أجل العمل على مراقبة الحكومات الأخرى، والمسلّحين، ونشطاء حقوق الإنسان الذين ينتقدون النظام.
لوري سترود، واحدة من أولئك الذين انضمّوا إلى المشروع، حيث قدمت استقالتها من وكالة الأمن القومي الأمريكي، وعملت مع فريقها من داخل أحد القصور في أبوظبي، لمساعدة الإمارات على اختراق الهواتف وأجهزة الكمبيوتر الخاصة بالأعداء.
وتم تجنيد سترود من قِبل أحد متعهّدي الأمن السيبراني في ولاية ماريلاند، من أجل مساعدة الإمارات على إطلاق عمليات القرصنة، وهو المشروع الذي استمر حتى 2016.
وأضاف التحقيق أن الإماراتيين نقلوا مشروع "رافين" إلى شركة أمن إلكتروني في بلادهم تُدعى "دراك ماتر"، حيث اضطرّت "سترود"، ومعها عدد من الأمريكيين، إلى إنهاء مهمتهم بعد أن طُلب منهم مراقبة مواطنين أمريكيين.
وقالت سترود: "أعمل لوكالة استخبارات أجنبية تستهدف أشخاصاً أمريكيين. لقد شعرت لحظتها بأني سأكون جاسوسة من النوع السيئ".
وبيّنت وكالة "رويترز" أن قصة "الغراب الأسود" تكشف كيف استخدمت الإمارات قراصنة من الولايات المتحدة كانوا يعملون في السابق على استخدام أدوات التجسّس الحديثة، من أجل خدمة مشروعها الاستخباراتي الذي يستهدف نشطاء في حقوق الإنسان، وصحفيين ومنافسين سياسيين.
وأجرت مقابلات مع 9 من عملاء "الغراب الأسود"، كما اطّلعت على الآلاف من الصفحات والوثائق ورسائل البريد الإلكتروني الخاصة بالمشروع، مشيرة إلى أن تقنيات المراقبة التي تستعملها وكالة الأمن القومي الأمريكي كانت أساسية في رصد تحرّكات المعارضين، حيث أكّد العملاء الأمريكيون أنهم لم يستهدفوا مواطنين إماراتيين.
كشف أسرار
وأضاف التحقيق أنه تم استخدام مجموعة من الأدوات السيبرانية، ومن ضمن ذلك منصة تجسس متطوّرة تُعرف باسم "كارما"، حيث يقول عملاء "الغراب الأسود" إنهم استهدفوا أجهزة هواتف ذكية من طراز "آيفون" لمئات من النشطاء والزعماء السياسيين والإرهابيين المشتبه فيهم.
وكشف مشروع الغراب الإماراتي تفاصيل أوسع عن الدور الذي أدّاه العملاء السابقون بالدوائر الأمريكية، ومشاركتهم في عمليات قرصنة أجنبية، حيث يرى مجتمع الاستخبارات الأمريكية أن "العمل بمثل هذه المشاريع في بلد آخر يُعدّ خيانة".
من جهته، اعتبر ريا سيرز، نائب مدير مساعد للشؤون السياسية في وكالة الأمن القومي، أن هناك قواعد واضحة بشأن اختراق الشبكات الأمريكية أو سرقة اتصالات الأمريكيين، مبيّناً أن الأمر غير قانوني للغاية.
وبحسب التحقيق، فإن عمليات اختراق الأمريكيين كانت أحد أسرار شبكة الغراب، حيث عمدت إدارة المشروع إلى قيام إماراتيين بعمليات التجسّس على أمريكيين دون معرفة العملاء العاملين داخل المشروع من الأمريكيين.
ويتحرّى مكتب التحقيقات الفيدرالي بشأن ما إذا كان الموظفون الأمريكيون في مشروع الغراب قد سرّبوا تقنيات مراقبة أمريكية سرّية، وما إذا كانوا استهدفوا شبكات الكمبيوتر الأمريكية بشكل غير قانوني، بحسب وكالة "رويترز".
العاملون الأمريكيون في المشروع التجسّسي الإماراتي كانوا يتقاضون رواتب تبدأ من 200 ألف دولار سنوياً وحتى 400 ألف دولار.
وقالت سترود: "بدايةً، كنت أعتقد أن العمل يأتي في إطار جهود مكافحة الإرهاب والتعاون مع الإمارات، التي هي حليف وثيق للولايات المتحدة في الحرب على داعش، خاصة أن المشروع أكّد موافقة جهاز الأمن القومي، كان ذلك مقعناً بالنسبة إلينا".
وأشارت الوكالة إلى أنه تم الطلب من موظفي المشروع أن يقولوا إنهم يعملون لدى شركة مقاولات في أبوظبي؛ إذا ما سألهم أحد عن طبيعة عملهم.
القائمة المستهدَفة
قائمة أهداف مشروع الغراب الإماراتي، بحسب سترود، بدأت بالنشطاء، ثم تطوّرت لتشمل الجماعات المسلّحة في اليمن، وأعداء أجانب مثل إيران وقطر وتركيا، وأفراداً ينتقدون أبوظبي، وخاصة أولئك الذين وجّهوا إهانات للحكومة.
وكانت هناك محاولة لاستهداف جهاز "الآيفون" الخاص بأمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وأيضاً هواتف أشخاص مقرّبين منه، وشقيقه.
وأضافت سترود: "كان من الصعب في بعض الأيام أن تفهم لماذا يتم استهداف طفل يبلغ من العمر 16 عاماً ومراقبة حسابه على تويتر! لكنها كانت مهمة استخباراتية".
واكتشفت سترود أن البرنامج التجسسي لم يكن يشمل "إرهابيين" ووكالات حكومية أجنبية، وإنما أيضاً منشقّين ونشطاء حقوق إنسان، صنّفتهم الإمارات على أنهم أهداف أمنية محلية.
ولفتت الوكالة إلى أنه عقب احتجاجات الربيع العربي، والإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك، في 2011، اعتبرت قوات الأمن الإماراتية أن المدافعين عن حقوق الإنسان يشكّلون خطراً رئيساً على الأمن الوطني، بحسب السجلات والمقابلات.
أحد الأهداف الذين استهدفهم برنامج التجسّس الإماراتي روري دوناغي، وهو صحفي وناشط بريطاني يبلغ من العمر 25 عاماً، كتب في عام 2012 مقال رأي في "الغارديان"، ينتقد فيه قمع الإمارات النشطاء، ويحذر من أنه إذا استمر الوضع بهذا الشكل، فإن الموجودين في السلطة بالإمارات سيواجهون مستقبلاً مجهولاً.
قبل عام 2012، كانت عملية جمع المعلومات تعتمد على العملاء الإماراتيين الذين اقتحموا منازل أشخاص مستهدَفين، ووضعوا فيها برامج تجسّس على أجهزة الكمبيوتر، ولكن مع وصول العملاء الأمريكيين، فإنه صار بالإمكان مراقبة الأشخاص المستهدَفين عن بعد.
داخل وكر الغراب
وتشرح "رويترز" تفاصيل أوسع عن العمل داخل الفيلا التي كانت تتم فيها إدارة المشروع، حيث تشير إلى أن هناك عشرات الموظفين الإماراتيين الذين كانوا يعملون إلى جانب الأمريكيين في المشروع، حيث تشرح الوكالة الخطوات التي يعمل في ضوئها فريق التجسّس المتخصص.
وأضافت أنه بعد الوصول إلى حسابات الجهات والأشخاص المستهدَفين، فإنه تتم مراقبته وتفريغ محتوى رسائله الإلكترونية والصور ومراقبة الموقع الشخصي أطول فترة ممكنة.
وتتابع الوكالة عملية رصد متابعة الكاتب والناشط البريطاني، حيث تشير إلى أنه بسبب الحساسية تجاه قضايا انتهاكات حقوق الإنسان في الغرب، اعتُبرت العملية ضده بمنزلة مقامرة.
الناشط الإماراتي أحمد منصور كان أحد أهداف مشروع الغراب، وكان يطلق عليه داخل المشروع اسم "إيغريت"، حيث سبق أن انتقد منصور علانيةً حرب اليمن التي تخوضها بلاده مع السعودية، كما انتقد معاملة العمال المهاجرين، واحتجاز المعارضين السياسيين.
تم اعتقال أحمد منصور ومحاكمته محاكمة سرية، عام 2017، وحُكم عليه بالسجن 10 سنوات، وهو محتجز في سجن انفرادي، وصحته تتدهور، في حين تعيش زوجته نادية بأبوظبي عزلة اجتماعية؛ حيث يتجنّبها الجيران.
وقالت الوكالة إنه ما بين عامي 2016 و2017، تم العمل على استهداف مئات الأهداف في أوروبا والشرق الأوسط، ومن ضمن ذلك قطر وإيران واليمن وتركيا.
وأشارت إلى أن السؤال الأهم الآن هو عن دور واشنطن في مثل هذا المشروع التجسسي، مشيرة إلى أن سترود عندما شعرت بأن هناك محاولة للتجسس على حسابات أمريكيين، بدأت بإثارة الأسئلة، ليتم منحها إجازة من العمل وسحب جواز سفرها، قبل أن يسمحوا لها بالمغادرة بعد شهرين من ذلك.
الإمارات تشعر بالخوف
وقالت الإمارات العربية المتحدة إنها تواجه تهديداً حقيقياً من الجماعات المتطرفة العنيفة، وإنها تتعاون مع الولايات المتحدة في جهود مكافحة الإرهاب. ويقول عملاء سابقون في "الغراب الأسود"، إن المشروع ساعد نسبياً على تفكيك شبكة لـ "داعش" داخل الإمارات. عندما طعن أحد أفراد جماعة داعش أحد المعلمين بأبوظبي في عام 2014، يقول العاملون إن رافين قاد جهود الإمارات لتقييم ما إذا كانت هجمات أخرى وشيكة.
وسلطت تقارير مختلفةٌ الضوء على سباق التسلح الإلكتروني الجاري في الشرق الأوسط، حيث تحاول "طيران الإمارات" ودول أخرى أن تكتسح أسلحة التسلل والموظفين بشكل أسرع من منافسيهم.
توفر قصة الغراب أيضاً نظرة جديدة إلى الدور الذي تؤديه الدوائر الأمريكية السابقة في عمليات القرصنة الأجنبية. داخل مجتمع الاستخبارات الأمريكية، يرى البعض أن العمل ببلد آخر يعد خيانة للاستخبارات الأمريكية.
وقال بوب أندرسون، الذي عمل مساعداً تنفيذياً لمدير مكتب التحقيقات الفيدرالي حتى عام 2015: "هناك التزام أخلاقي إذا كنت ضابطاً استخباراتياً سابقاً من أن تصبح مرتزقاً فعلياً لحكومة أجنبية".
وبينما يثير هذا النشاط معضلات أخلاقية، يقول محامو الأمن القومي الأمريكي إن القوانين التي توجه ما يمكن أن يفعله مقاولو الاستخبارات الأمريكية في الخارج غامضة. على الرغم من أنه من غير القانوني مشاركة المعلومات المصنفة، لا يوجد قانون محدد يمنع المتعاقدين من مشاركة معلومات أكثر عمومية عن الطوافة، مثل كيفية استهداف هدف من خلال بريد إلكتروني محمّل بالفيروس.
ومع ذلك، فإن القواعد واضحة بشأن اختراق الشبكات الأمريكية أو سرقة اتصالات الأمريكيين. وقال ريا سيرز، نائب مدير مساعد لشؤون السياسة في وكالة الأمن القومي: "سيكون الأمر غير قانوني للغاية".