خلال الأسبوع الثاني من يناير/كانون الثاني 2016، استعادت روسيا ببطء روتين الحياة المعتاد في جميع أنحائها عقب فاصل امتد 10 أيام بمناسبة العام الجديد، كان البرد قارساً وجليدياً في موسكو، ولكنه كان دافئاً في سوشي، بمنتجع البحر الأسود، حيث كان الرئيس فلاديمير بوتين مُحاطاً بزهور الماغنوليا والنخيل وأشجار السرو، وبينما كل من كان في موسكو بحاجة لمعطف سميك إذا تجرأ على المشي في الجليد، فالأمر مغاير تماماً في سوشي؛ حيث يكفيه قميص ومعطف خفيف.
الرئيس الروسي يعيش في عالم خاص به حقاً، عالمٍ يختلف تماماً عن معظم روسيا المتجمدة، وعالمه في الوقت الراهن شبه استوائي دافئ.
ربما الهواء الدافي والأوراق الخضراء يوحيان بالتفاؤل، حيث بدأ الرئيس بوتين العام الجديد 2016، بتحليل متفائل صرح به لصحيفة "بيلد" الألمانية. تصريحات بوتين جاءت واثقة بشأن الاقتصاد الروسي، خاصة عندما خلطها بالعبارات الألمانية، وصفت عجز الميزانية بالانخفاض، والاحتياطي القومي بالثراء، وانهيار أسعار النفط بالأمر الصحي للاقتصاد الروسي، بحسب ما أوردت صحيفة ديلي بيست الخميس 14 يناير/ كانون الثاني.
أرقام خادعة
"روسيا لديها احتياطي بالبنك المركزي يبلغ 300 مليار دولار، بالإضافة إلى 150 مليار دولار كاحتياطي لدى الحكومة"، هذا ما قاله بوتين للصحيفة الألمانية "بيلد" في سوشي. لذلك، ووفقًا لحسابات بوتين فإن روسيا لديها حوالي 450 مليار دولار كاحتياطي نقدي.
ماسكوفيسكيج كومسوموليتس "MK"، الصحيفة التي يقرأها حوالي ثلث سكان موسكو، خرجت على جمهورها بعنوان رئيسي يقول "بوتين أخطأ في تقدير 150 مليار دولار احتياطي نقدي"، وأجرت الصحيفة لقاءً صحفياً مع خبراء بالشأن الروسي ومحللين اقتصاديين مستقلين، والذين بدوا مدهوشين مما يعلنه بوتين، حيث إن الأرقام الحقيقية موجودة على موقع الحكومة على الإنترنت. وقالوا: لا بد أن مستشاري بوتين قد أمدوه بمعلومات خاطئة، بحسب ما رجّحت الصحيفة.
ميدفيديف: يتوقع أسوأ سيناريو
الصورة الحقيقية التي يعلمها الجميع لا تبدو متفائلة على الإطلاق، فالاقتصاد الروسي يعتمد على البترول مثلما تعتمد الحياة على الأكسجين، فهو يمثل على الأقل 15% من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا.
أمس الأربعاء 13 يناير/كانون الثاني، اجتمع خبراء اقتصاديون في روسيا لسماع توقعات رئيس الوزراء دميتري ميدفيديف بشأن الموازنة العامة للدولة، والتي تم حسابها على أساس سعر 50 دولاراً للبرميل الواحد من نفط الأورال، ولكن السعر الحقيقي هو 30 دولاراً للبرميل.
وعلى عكس رؤية بوتين، فإن رئيس وزرائه قال إن روسيا مستعدة لما وصفه بـ"أسوأ سيناريو"، شأنها في ذلك شأن البلدان الأخرى بسبب تراجع أسعار النفط.
تراجع أسعار النفط
في المقابل أوردت محطة RBC TV التلفزيونية الروسية المتخصصة في الشأن الاقتصادي، أنه في حالة انخفاض سعر برميل النفط إلى 24 دولاراً، فإن عجز الناتج الإجمالي المحلي الروسي سيزداد بمقدار 7,5%.
"في الواقع نحن الآن في وضع أسوأ بكثير مما كنا عليه في 2008، عندما كان الاحتياطي النقدي حقيقة يتخطى 600 مليار دولار، وكان لدينا فقط 15 مليون شخصًا يعانون من الفقر" هذا ما قاله الخبير الاقتصادي فلاديمير ريجكوف في حديثه لصحفية "ديلي بيست"، والذي أضاف قائلاً "احتياطنا النقدي الآن هو حوالي 300 مليار دولار، مع معدل فقر متسارع".
تراجع الاحتياطي النقدي
احتياطي روسيا القابل للاستخدام يتقلص بسرعة خطيرة، فالبنك المركزي الروسي قال في العام الماضي إن الاحتياطي القومي الروسي كان يقدر بنحو 364 مليار دولار في نوفمبر/تشرين الثاني 2014. وهو ما يعني أن الاحتياطي قد انخفض 150 مليار دولار عما كان عليه في آخر أكتوبر/تشرين الأول لعام 2013، حيث كان حينها 524 مليار دولار.
ففي السنوات التي شهدت ضم جزيرة القرم، والتي بدأت فيها الحرب الأوكرانية، ازداد عدد الروس تحت خط الفقر إلى 23 مليون شخص، بحسب ما قاله الخبير ريجكوف.
وأضاف قائلًا "إذا ظل سعر برميل النفط عند قيمة 30 دولاراً للبرميل الواحد، فسوف ننفق حوالي 100 مليار دولاراً من الاحتياطي القومي قبل نهاية عام 2016، وإذا لم يرتفع في العام التالي، فسوف نلجأ إلى 200 مليار دولار من احتياطي البنك المركزي مع انخفاض قيمة الروبل (العملة الروسية) إلى 100 روبل مقابل دولار واحد.
التفاؤل علامة بوتين التجارية
التفاؤل بشأن الاستقرار هو بمثابة العلامة التجارية للرئيس بوتين، وشيء يدعو داعمي بوتين للإعجاب به، فيقول سيرجي ماركوف، عضو الحزب الحاكم بروسيا، إن الرئيس مضطر للإبقاء على تلك الثقة، محيطاً نفسه بالأشخاص القادرين على ممارسة السلطة وإدارة الممتلكات، وليس بالمثاليين".
الفساد الروسي والبيروقراطية
من المحتمل للاقتصاد الروسي أن يتعافى حال توقف البيروقراطيين في الدولة عن نهب الميزانية الروسية. ففي عام 2014، كان ترتيب روسيا هو رقم 136 في تصنيف منظمة الشفافية الدولية للفساد العالمي من أصل 175 دولة، وعلى الرغم من ذلك قال الموالون للكرملين على الفور إن ذلك الترتيب كان مُسيَّساً وإن ما اعتُبر فساداً كان صفقة غير رسمية بين السلطات والسكان المحليين.
وأضاف ماركوف لديلي بيست قائلاً: "حتى إذا كانت الحكومة ومسؤولو الدولة فاسدين، فنحن لن نحارب ذلك، فالحرب الحقيقة ضد الفساد تعني ثورة أخرى، وهذا ما لا يرغب فيه المجتمع الروسي".
منتقدو بوتين محرضون كاذبون
"هؤلاء الذين ينتقدون وجهة نظر الرئيس بوتين يُنظر إليهم باعتبارهم مُحرضين أو كاذبين أو عملاء أجانب يحاربون روسيا في "حرب هجينة" تشنها القوى الغربية".
أول أمس الثلاثاء، أعلن الزعيم الشيشاني رمضان قديروف، في مؤتمر صحفي بالعاصمة الشيشانية غروزني أن منتقدي بوتين هم مُستأجرون من قِبل أجهزة المخابرات الأجنبية، ويفعلون ما بوسعهم لمعارضة بوتين.
وتابع قائلاً: "هؤلاء الأشخاص يجب التعامل معهم كأعداء للشعب وخونة، ويجب أن يخضعوا للمحاكمة".
كل الروس يعلمون أن ستالين قد أعدم "أعداء الشعب"، لذا بدت كلمات قديروف تهديداً للحياة، خاصة بعدما تم اغتيال واحد من أبرز النقاد لسياسة بوتين، بوريس نيمتسوف، خارج جدران الكرملين، في فبراير/شباط الماضي.
الديمقراطية ما زالت تناضل
وقال ريجكوف: "بعد اغتيال نيمتسوف، أصبحت كلمات قديروف تبدو تهديدًا مباشراً، إنه يتكلم مثل ديكتاتور كلاسيكي، ماو أو ستالين، كل الديكتاتوريين يقولون الأمر نفسه، أي أن المعارضة تهديدٌ وطنيٌّ مستلهم من قوى أجنبية، ولكن روسيا بلد ديمقراطي، وفقاً لدستورها، ورسائل قديروف الديكتاتورية مناهضة للدستور".
الديموقراطية ما زالت تناضل في روسيا ومع ذلك فهي على قيد الحياة. فقد سُمي منتدى غايدار الاقتصادي على اسم واحد من رواد الإصلاح الديمقراطي في روسيا، وهو ييغور غايدار، والمنتدي يضع أكثر القضايا إلحاحًا على جدول أعماله، بما في ذلك انتشار الاحتجاجات السياسية.
وبحسب مركز بحوث الرأي العام الروسي، والمُدار من قِبل الدولة، فإن 52% من الروس يعتقدون أن "أصعب الأوقات" لا تزال أمامهم.