وبهذه التي يسمونها في بر مصر إدارة شؤون الحكم، وهي ليست منها في شيء، اختلالات خطيرة ترتب الفشل المستمر في إخراج الوطن من أزمته.
من جهة، يغيب التداول الحر للمعلومات والحقائق، إن داخل أروقة المؤسسات والأجهزة الرسمية، أو بينها وبين التنظيمات الوسيطة للمجتمع -المنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية- كما بينها وبين المواطن.
بل يجرم التداول الحر للمعلومات والحقائق بشأن قضايا مصيرية -على سبيل المثال، حال سيناء وتفاصيل برامج وإجراءات مكافحة الفساد المستشري في العديد من المؤسسات والأجهزة- باستدعاء ما يوصف "كمقتضيات الأمن القومي" ويترجم في الواقع المعيش إلى مسكوت عنه وخطوط حمراء.
وتتمثل كلفة الغياب والتجريم هنا في أمرين؛ أولهما مرغوب من قبل السلطوية الحاكمة، وهو تجهيل المواطن وتزييف وعيه ومنعه من الاهتمام الفعال بالشأن العام، وثانيهما لا تدركه السلطوية على الأرجح وهو انعدام قدرتها على ممارسة المراجعة الذاتية لقراراتها وسياساتها وتصويبها أو تعديلها أو تغييرها حين تتضح تداعياتها السلبية.
فالمواطن يحتاج إلى توفر المعلومات والحقائق لكي يتفاعل مع القضايا العامة التي تدور من حوله وتؤثر فيه، وممثلو السلطوية الحاكمة في الدوائر التنفيذية والتشريعية والقضائية لا ينزعون إلى مراجعة قراراتهم وسياساتهم ما لم يتوفر نقاش عام جاد جوهره تداول المعلومات والحقائق وتعددية الطرح والتعبير الحر عن الرأي دون خوف من تعقب أو قمع.
من جهة أخرى، تهيمن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، بتكليف من رأس السلطة التنفيذية، على شؤون الحكم وعملية صناعة القرار العام وتحديد هوية المشاركين المؤثرين فيها تنفيذيًّا وتشريعيًّا وقضائيًّا.
وعقيدة هذه الأجهزة، عندما تختفي الآليات الديمقراطية وتهيمن السلطوية على الدولة وتخضع المجتمع تعقبا وقمعا وتهدد المواطن بالعقاب ما لم يمتثل لإرادة الحكم، هي الإدارة المنفردة وتصعيد الموالين ورفض وجود معارضة فعالة.
تدعي الأجهزة الأمنية والاستخباراتية احتكارها للحق الحصري لتحديد جوهر "المصلحة الوطنية"، وتنتظر من الناس التأييد المطلق للحكم وللقرارات والسياسات الرسمية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
ويتبع ذلك تمكين الموالين، الذين تنظر إليهم الأجهزة كعرائس تتحرك على خشبة مسرح معدة بدقة وتوجهها الخيوط المشدودة بعناية بهدف ضمان بقاء الحكم والحاكم، من الهيمنة على صناعة القرار العام.
ثم تغلق "الدائرة" بتعريف تنوع الآراء والأفكار كخيانة جزئية أو كلية للوطن، وتوصيف كل عمل معارض حتى وإن التزم السلمية والعلنية "كمؤامرة" تستدعي الإحباط.
تصنع إدارة شؤون الحكم على نحو منفرد من قبل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الكثير من الجدران العازلة بينها وبين المجتمع والمواطن، كما أنها نادرا ما تأتي بنجاحات تنموية واقتصادية واجتماعية مستدامةز
بل إن الإدارة المنفردة هذه تدخل السلطوية من أعلى قمة هرم الحكم وصناعة القرار بها إلى أدناه، في بارانويا خوف دائم من المجتمع والمواطن ومن انتفاضات محتملة للغضب الشعبي، ولذلك تتورط الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في مظالم وانتهاكات واسعة النطاق.
وفي ممارسات قمعية أخرى تستطيل قوائم ضحاياها من الأفراد والكيانات لتضم مجموعات من الطلاب والشباب والعمال والكتاب والصحفيين وبعض المنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية ودور النشر -كما حدث مؤخرا مع دار ميريت للنشر- وبعض المصالح الاقتصادية والمالية الخاصة (لأصحابها المغضوب عليهم رسميا أو غير المنضوين تحت عباءة تأييد النخب الاقتصادية والمالية للسلطوية الحاكمة وتحالفها معها).
والنتيجة هي سطوة كاملة للأمني على كل ما عداه، والتفلت الكامل للمظالم والانتهاكات والممارسات القمعية من كل الحدود المرسومة لها من قبل السلطوية الحاكمة.
لا أعني في هذا السياق الحدود الأخلاقية والإنسانية، فالاعتبارات الأخلاقية والإنسانية لا أهمية كبيرة لها في عالم السلطوية. بل أشير إلى الحدود المرتبطة بالعلاقة بين الكلفة الفعلية للقمع، وهي باهظة حين يتسع نطاقه، وفعاليته في ضمان بقاء الحكم وهي تتراجع حين يتسع النطاق ويعتاد الناس القمع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.