أصدر البنتاغون بياناً يفيد بأن الولايات المتحدة أخطرت القوات الروسية في سوريا قُبيل إطلاق 59 صاروخ كروز من طراز توماهوك على مطار الشعيرات ليلة الخميس 6 أبريل/نيسان. وبالمثل، قال مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر في مؤتمرٍ صحفي "بذلنا جهداً لتقليص الخطر على مواطني الدول الأخرى. يُمكن أن تستنبطوا كون روسيا المعنية بهذا".
ونظنّ أن "الجهد" المشار إليه اشتمل -بالإضافة إلى تصميم الهجوم والانتقاء الحذر للأهداف- جهوداً دبلوماسية.
وعلى الأرجح فإن الدبلوماسية الأميركية تكوّنت من قنواتٍ أمامية من خلال وزارة الخارجية، وقنواتٍ خلفية أخرى، حذَّرت الروس وأعلمتهم أن الهجوم القادم مقتصر على هجمة عقابية موجَّهة لهدفٍ عسكري أُطلِقَت منه هجمات الأسلحة الكيماوية التي شنَّها الأسد، وفق ما ذكرت مجلة "ناشيونال انترست" الأميركية.
لم يُقتل أي روسي في الهجوم. ويُشير غياب الرد العسكري الروسي على الضربة إلى موافقة روسية ضمنية على الضربة محدودة النطاق، مع أنَّ هذا لا ينعكس في الخطاب الروسي.
وبطبيعة الحال، انضمّ الروس إلى سوريا وإيران في الإدانة العلنية للهجمات بصفتها عدواناً أميركياً غير قانوني على دولة ذات سيادة. وهي وجهة نظر معتبرة، غير أن بعض المنظِّرين العسكريين الروس يجادلون بأن صواريخ الكروز يُمكنها "مهاجمة المنشآت البرية بالغة الأهمية الخاصة بالعدو، دون اختراق سيادته الوطنية، حتى لحظة معينة، طالما أطلقت من خارج الحدود".
وبالإضافة إلى ذلك، ترسم الرسائل الروسية الإستراتيجية صورة الضربة الصاروخية وكأنها تُقدم العون لتنظيميّ القاعدة والدولة الإسلامية (داعش) عن طريق تدمير مطارٍ تستخدمه القوات الجوية السورية والقوات الروسية في شنِّ هجماتِ مكافحة الإرهاب بحمص وإدلب.
وألغى الروس كذلك مذكَّرةَ تفاهمٍ وُقِّعت في العام 2015 على نزع فتيل الصراع الجوي في سماء سوريا، وأعلنت اعتزامها تقوية الدفاعات الجوية السورية، واتصلت بالملحق العسكري الأميركي في موسكو وأرسلت فرقاطة الصواريخ الموجَّهة "أدميرال جريجوروفيتش" إلى شرق البحر المتوسّط.
فرقاطة أدميرال جريجوروفيتش مجهّزة بالمُعادل الروسي -رغم اختلاف البعض حول ذلك- لصواريخ التوماهوك، وهو صاروخ "كاليبر NK"، الذي أطلقته موسكو ضد عددٍ من الأهداف في سوريا منذ 2015.
وفي وقت الهجوم على قاعدة الشعيرات الجوية، كانت لدى روسيا أنظمة الدفاع الجوي S-300 وS400 في اللاذقية وطرطوس، ولدى النظام السوري نظام دفاعٍ جوي مدمج (IADS) الخاص به، بصناعة روسية. ورغم القُدرة المُعلن عنها لدى تلك الأنظمة الدفاعية على التصدي لصواريخ الكروز، ليست هناك أخبارٌ اليوم عن أي ردٍ منها. فما السبب؟
تقدّم صحيفة Times Of Israel إجابتين معقولتين: "بطارية الدفاع الجوي الروسية S-400 -والتي تُعتبر واحدة من أفضل الأنظمة في العالم- لم تُسقط على ما يبدو صاروخاً أميركياً واحداً، إما لأنّها لا تقدر على ذلك، أو لأن الجيش الروسي اختار عدم التدخل".
وبصفتها ثاني أكبر دولة منتجة للأسلحة (بعد الولايات المتحدة)، ربما كرِه الروس المُخاطرة بتجاوز صواريخ التوماهوك لأنظمة الدفاع الروسية وبالتالي الإضرار بالمبيعات المستقبلية. الضربات الخارجة عن محور الرصد صعبة وصواريخ التوماهوك سلاح بالغ القوة. إلا أنّه من غير المحتمل أن يعجز واحدٌ من أكثر نُظم صواريخ الأرض – جو تطوراً في العالم عن إسقاط صاروخ توماهوك واحدٍ على الأقل يُسافر بأقل من سرعة الضوء.
التفسير المنطقي والأقرب هو أن الروس اختاروا عدم تصعيد الموقف. ومع أن موسكو ودمشق وقعتا مؤخراً عقداً مدته 49 عاماً من أجل توسعة المنشآت البحرية الروسية في طرطوس، حيثُ تمتلك روسيا قاعدة بحرية منذ عام 1971، فإن روسيا وسوريا ليست بينهما اتفاقية دفاعٍ مشترك مثل الموجودة بين دول منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
علاوة على ذلك، هل روسيا مستعدة للدخول في عداواتٍ صريحة مع الولايات المتحدة بشأن سوريا، نظراً إلى العلاقات طويلة الأمد بينهما؟
ربما وصلت الرسالة إلى موسكو بأن هذه ضربة محدودة النطاق. وإن لم يكن القادة الروس مهتمون بتصعيد الصراع مع الولايات المتحدة بعد هذا الهجوم، فلا نتوقَّع على المدى القصير حدوث أكثر مما فعله القادة الروس بالفعل.
يلقى الخطاب الفظُّ صدىً لدى الجمهور الروسي في الداخل، ويطمئن حلفاء موسكو إلى التزامها وشراكتها التي يُمكن الاعتماد عليها. في الواقع، الطبيعة المحدودة لضربة التوماهوك -حين كانت هناك خيارات تصعيدية أخرى- تُظهر قيمة الردع الروسي، ولا تقلل بأي شكلٍ من دور موسكو في المنطقة.
وحتى إن أفلحت الدبلوماسية، نتوقَّع أن تقوي موسكو النظام السوري على المدى الطويل من خلال تحسين الدفاعات الجوية -وهو ما وعدت به من قبل وقامت به بالفعل- وتوفير أسلحة هجومية مثل صواريخ الكروز والصواريخ البالستية، والمدفعية وأنظمة إطلاق الصواريخ المتعددة، مثل "قاذفة اللهب الثقيلة" TOS-1A.
وبغض النظر عن العلاقات الأميركية الروسية والتطورات السورية، ربما تستمر موسكو في توطيد أواصر العلاقات مع طهران وبيع أسلحة متطورة لها – مثل شحنة أنظمة S-300 الأخيرة.
وإن فشلت الدبلوماسية، سيكون أمام روسيا عددٌ من الخيارات للتصعيد في مناطق الاحتكاك الجيوسياسي المتنوعة.
على سبيل المثال، يُمكن لروسيا أن تستخدم أنظمة الدفاع الجوي ومدى واسعاً من الأسلحة المضادة للسفن في خلق منطقة محرمة في شرق البحر المتوسط والبحر الأسود على طول المداخل إلى المياه الإستراتيجية مثل مضيق البوسفور. ويُمكنها أيضاً رفع حدة التوترات شرقي أوكرانيا، وإحداث أزماتٍ في البحر الأسود والبلطيق، وشنّ هجمات سيبرانية مباشرة ضد الغرب أو إعادة إشعال الصراعات الخاملة.
والمثير للقلق هو إمكانية أن تقوم بمزيجٍ من تلك النشاطات الشريرة.
هناك أيضاً احتمالية أن سوريا، أو إيران أو طرفاً آخر قد يتحرَّك، ويدفع بالولايات المتحدة وروسيا في اتجاه غير مرغوبٍ فيه يقود إلى التصعيد. وهناك أكثر من سابقة هنا.
أحد الأمثلة على ذلك حدث قبل شهرٍ من قمة موسكو في مايو/أيار 1972، عندما شنَّ الجيش الفييتنامي الشمالي المدعوم من السوفييت هجوماً ضخماً على فييتنام الجنوبية المدعومة من الولايات المتحدة.
رأى الرئيس ريتشارد نيكسون الهجوم حائلاً دون تحسين العلاقات الأميركية السوفييتية، وسأل مستشاره أليكساندر هايغ "كيف يمكنك الذهاب إلى الاتحاد السوفييتي ورفع الأنخاب مع بريسنيف وكوسيغين وتوقيع اتفاقية الحدِّ من الأسلحة الإستراتيجية في قاعة القديس بيتر الكُبرى، بينما الدبابات والمدافع الروسية تضرب حلفاءنا في فييتنام بشراسة؟".
في النهاية، وبعد الإدانات الخطابية السوفييتية لحملة القصف والتنقيب الخاصة بنيكسون، والتي شنَّها رداً على الهجوم، اتفق الجانبان على الاختلاف بشأن فييتنام والاستمرار في تحسين العلاقات.
يُمكن للقوى الكبرى استخدام الدبلوماسية -والقنوات الخلفية وسيلة مثالية- بهدف الوصول إلى تسوية، إلى طريقة للاتفاق على الاختلاف في بعض المناطق. ونأمل أن تتقبل موسكو وواشنطن عدم اتفاقهما خطابياً، بينما تتفاديان التصعيد عملياً.
ويبدو أن هذا هو الوضع، على الأقل حتى لحظة كتابة هذه السطور.
– هذا الموضوع مترجم عن مجلة National Interest الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.