في أحد المراكز التجارية الضخمة التي باتت مبلغ علمنا، كنت أجلس في مقهى من تلك المقاهي المنتشرة في كل مكان، وفي كل ركن من الأركان، فقد أصبحت القهوة جل همنا، حتى ولو كانت من روث الفيلة أو من براز ذلك الحيوان الذي يأكل حبوب البن وزهوره في إندونيسيا، والذي يسمى الكوبي لواك، ولعلها أغلى قهوة في العالم، كنت أكتب ما تجود به قريحتي أو بنات أفكاري، أحاول أن أناقش واقعنا بكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات، كنت منهمكاً لدرجة أنني كنت أعيش في عزلة تامة عما حولي فلا ضوضاء أسمعها مع كل ما يحيط بي من فوضى، ولا أناس أراهم مع مئات البشر من حولي.
فجأة قطع صمت عزلتي بكاء طفلة، لم تكن الطفلة تبكي بشكل عادي، كانت تبكي بحرقة شديدة وألم، التفت إلى مصدر الصوت فوجدته من ساحة للرسم والتلوين خصصت للأطفال، الطفلة تبكي بحزن واضح ومسؤولة المكان تحاول تهدئتها بكل الطرق والوسائل المتاحة دون جدوى، الناس منشغلون بالشراء والتسكع في السوق أو المول، أو منكفئون على الأجهزة المحمولة غير عابئين بكل ما حولهم، الطفلة تبكي وتبكي، وبكاؤها يضني القلب، توجهت إليها لأرى ما المشكلة، من خلف السياج الفاصل بيني وبين تلك الساحة سألت المشرفة: ما الأمر؟ لماذا تبكي الطفلة هكذا؟ أجابت غير منتبهة لي لانشغالها بالطفلة: لا أعرف، كانت تربت على الطفلة وتحاول إغراءها ببعض الحلوى لكي تسكت، الطفلة تبكي والمشرفة تخاطبها: معلش يا قلبي.. معلش يا حبيبتي.. خلاص كفاية.. خذي هذه الحلوى.. خذي هذه الألوان.. كنت أراقب الموقف وأنا متعجب من المشرفة ومن معظم الآباء والأمهات في كيفية تعاملهم مع الأطفال، نقمع أطفالنا ونحاول أن نريح أنفسنا فقط، يبكون فلا نريد إلا إسكاتهم، يسألون فلا نجيبهم؟ يحاولون الاستكشاف فنوبخهم، دون أن نعطي أنفسنا مجالاً لكي نفهم ما هي المشكلة، ولماذا يتصرفون بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة، توجهت إلى مكان الطفلة وجلست بقربها، وقلت لها: لماذا تبكين؟ ما الذي أزعجك؟ أخبريني؟ تنظر إليَّ وكأنها تتعجب من طريقة كلامي وتستمر في بكائها، عينيها بها حزن عميق والدموع تنهمر على وجنتيها، أعدت أسئلتي وأنا أربت على رأسها وأمازحها محاولاً إضحاكها، قلت لها: أخبريني ماذا حدث؟ ما هي المشكلة؟ قالت لي وهي تشير إلى الرسمة التي كانت تلونها: لقد خرجت الألوان عن الخط وخربت لوحتي، نظرت إلى لوحتها، كانت عبارة عن رسمة محددة بخطوط والطفل كل ما عليه هو تلوين الرسمة بما يراه مناسباً له، قلت لها لنحاول حل الموضوع، جلست معها على طاولة التلوين وعشت دور البطل، رسمت بعض الأشكال على الخطوط التي خرجت عن الخطوط معتقداً أن ذلك حل للمشكلة، لم يجدِ ذلك نفعاً وعادت الطفلة للبكاء وهي تكرر: لوحتي خربت!! قلت لها حسناً انتظري قليلاً، سأحضر لك الحل، وجهت كلامي للمشرفة سائلاً: هل لديكم ممحاة؟ أجابت المشرفة: لا، كان بالمول مكتبة ليست ببعيدة عن ساحة التلوين، ذهبت إليها والطفلة تراقب تحركاتي من بعيد وعيناها تشعان أملاً، اشتريت ممحاة وعدت إلى ساحة الرسم وأخذت اللوحة منها ومسحت كل الألوان التي خرجت عن الخطوط المحددة للرسمة، لمعت عينا الطفلة وقفزت من مكانها واحتضنت اللوحة واحتضنتني، شعرت الطفلة بسعادة تمنيت أن أشعر بها أو أن نشعر بها جميعاً، ابتسمت ابتسامة أفرحتني وأحزنتني، فقدنا الطفولة وفقدنا ذلك الإحساس الصادق البريء، قلت للطفلة: هذه الممحاة احتفظي بها وحاولي مسح كل الأخطاء التي تقعين فيها، هنا وجدت نفسي وقد تعلمت درساً لن أنساه ما حييت، طفلة تعلمني أن ممحاة تمسح الأخطاء وتحولنا من حالة الحزن العميق إلى الفرح والسعادة.. مجرد ممحاة.
لماذا لا نمتلك ممحاة؟ لماذا لا يكون بداخل كل منا تلك الممحاة؟ هل ذلك صعب؟ عندما يتعدى علينا أحدهم بكلمة أو جملة أو تصرف نقيم الدنيا ولا نقعدها، نكيل بمكيالين، من شتمنا نشتمه، نسيء إلى من أساء لنا، هكذا حال معظمنا وكأننا ننتظر من الآخرين أن يعطونا الضوء الأخضر لنخرج أقبح ما لدينا وأسوأ ما في جعبتنا، لا نسامح أحداً مع أن كل الديانات تدعو للتسامح، الغفران والتسامح ليسا في قاموس معظمنا، لا نسكت عن الإهانة أبداً، فمن أهاننا لا بد أن يهان على مسمع ومرأى من الأعيان، ليس هذا فحسب فقد نثور ونغضب، تأخذنا العزة بالإثم فنزيد في الخطأ، نتمادى وقد يقتل بعضنا بعضاً لمجرد كلمة، نعم كم هم ضحايا الغضب!!! وكم هم ضحايا الحمق وكم هم…؟ ولكن هل من الصعب أن نجعل بداخل كل منا ممحاة نمسح بها تلك الأشياء التي خرجت عن الخطوط أو الأطر المحددة للتعامل معنا أو التي رسمناها بناء على شخصيتنا مهما كانت؟ هل من الصعب التجاوز عن بعض الأخطاء؟ هل من الصعب أن نسامح؟ هل من الصعب أن نغفر للآخرين زلاتهم؟ هل من الصعب أن نسكت؟ هل من الصعب أن لا نقابل الإساءة بالإساءة؟ هل كل ذلك صعب؟ بالنسبة للبعض سيكون صعباً، لا، ليس صحيحاً؛ لأن كل ذلك ليس صعباً لو عرفنا قيمة التسامح وقيمة التعامل برقي، وقيمة الصبر، وقيمة التعامل بحكمة، أشياء كثيرة لا نعرف قيمتها وكم تؤثر علينا بالإيجاب إن اعتمدناها كأسلوب حياة.
فلنفكر معاً فيما يفيد رد السوء بالسوء، هل هذا هو الحل؟ وهل هذا هو ما يريحنا ويريح الآخرين؟ أليس من الأفضل لنا التسامح؟ أليست الابتسامة لرد الإساءة قوة كما أنها صدقة؟ أليس الحلم مطلوب؟ أشياء كثيرة نستطيع أن نفعلها لكي نرد الإساءة بالإساءة، ولكن أن نرد الإساءة بالإحسان هذه هي القمة وهذه هي التربية الحقيقية، هنا تسمو النفس وتعلو، كم منا يستطيع ذلك؟ وكم منا جرب ذلك؟ حتماً هناك من سيقول ذلك صعب وأمر لا يطاق! نعم هو كذلك ولكن الصعب للضعاف وليس للأقوياء، ولعلني أسأل: هل تحكمنا في سلوكنا أمر صعب؟ هل التصرف بلباقة وأدب واحترام والترفع عن كل الشرور والآثام أمر صعب لا يستطيعه إلا قلة؟ هل عندما تنبح الكلاب علينا فذلك يعني أن نجيبها بنباح أم أننا لا بد أن نتبع المثل القائل: القافلة تسير والكلاب تنبح؟ ولمن يدعون أن العصبية والانفعال سمة من سماتهم الشخصية وأنهم لا يستطيعون الهدوء والتصرف بكياسة فذلك خارج إرادتهم أقول لهم: أبشروا بكل أمراض العصر من سكر وضغط وقولون إن لم تصابوا بحالة نفسية أو حالة من فقدان السيطرة.
كن ممحاة أو كن أي أداة تمسح أخطاء الآخرين وأخطاءك فكلنا خطاء، وخيرنا من تاب ومن عرف أن الصواب هو الصواب، امحُ زلات الآخرين وضعفهم بقوتك وبأخلاقك الكريمة، ودعك ممن يقولون إن ذلك ضعف أو تنازل منك، جرب فالتجربة خير برهان، ودع ممحاتك تصاحبك في كل وقت ومكان، وعندما يزيد عليك الأمر استغفر ربك وقل: الله المستعان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.