تربصات الأمم المتحدة والفرص غير المتكافئة

الحصول على فرصة التدريب في الأمم المتحدة ليس باليسير؛ نظراً للمتطلبات المتعددة، مثل إتقان اللغة الإنجليزية والفرنسيّة في بعض الأحيان إلى جانب ضرورة توافر مسيرة عمليّة متميزة

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/17 الساعة 03:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/17 الساعة 03:57 بتوقيت غرينتش

يعتبر العمل داخل إحدى منظمات الأمم المتحدة في جنيف أو نيويورك تجربة ذات وزن على المستوى الأكاديمي والمهني؛ لما تمنحه هذه المنظمات من فرص للتعلم وبناء القدرات والالتقاء بعديد من الخبراء في مجالات التنمية والاقتصاد والعلاقات الدوليّة، كما تفتح هذه التربصات آفاقاً كبيرة على مستوى المستقبل المهني للمتربصين؛ إذ تسعى عديد من الشركات والمنظمات غير الحكوميّة؛ لتوفير وظائف لمن يملكون تجربة عمل أو نشاط على المستوى الدولي، كما أنها تساهم في بناء قدرات الشباب والمتخرجين حديثاً في مجالات ذات أهميّة مثل التنمية المستدامة والعلاقات الدوليّة.

وفي الحقيقة، الحصول على فرصة التدريب في الأمم المتحدة ليس باليسير؛ نظراً للمتطلبات المتعددة، مثل إتقان اللغة الإنجليزية والفرنسيّة في بعض الأحيان إلى جانب ضرورة توافر مسيرة عمليّة متميزة، إضافة إلى انتقائية العالية التي يتم اتباعها في مسار اختيار المتربصين، فهيئات الأمم المتحدة تتلقى سنوياً عشرات الآلاف من طلبات التربصات، ولا يتم قبول إلا 4000 منها في السنة.

ويعتبر الجانب المادي العائق الأساسي الذي يعترض عديد من الطلبة والشباب في العالم للانخراط في هذه التجربة الفريدة؛ إذ إن التربصات في الأمم المتحدة وهيئاتها غير مدفوعة الأجر، وعلى المتربص تحمل نفقات السفر والفيزا والسكن والمعيشة في جنيف أو نيويورك، مدينتين من أكثر المدن غلاءً في العالم (يبلغ متوسط تأجير غرفة بجنيف 800 دولار أميركي في الشهر، كما يبلغ متوسط المصاريف 1000 دولار أميركي في الشهر).

لم أكن على علم بهذه الوضعيّة قبل القدوم إلى جنيف للقيام بتربص مع منظمة الصحة العالميّة؛ حينها فقط تفطنت أن التكلفة المادية هي الحاجز الأهم أمام الغالبيّة العظمى من الشباب من الدول النامية للقيام بتربصات بهيئات الأمم المتحدة، بسبب عجزهم على تحمل مصاريف تقدر بعشرة آلاف دولار أميركي طوال ستة أشهر.
في المقابل، فإن معظم المتربصين في الأمم المتحدة هم من الطلبة أو متخرجون من دول متقدمة وغنيّة يتمتعون بالقدرة الماليّة على تحمل نفقات التربصات، سواء عن طريق الدعم المالي من العائلة، أو نظراً لأن عدداً كبيراً من الجامعات في أوروبا وأميركا توفر لطلبتها منحاً للقيام بالتربصات، الأمر شبه الغائب في كليات الدول العربية والإسلامية.

تشير دراسة * نشرت منذ سنتين إلى أن 80 في المائة من المتربصين يحملون جنسيّة دول ذات دخل مرتفع، وأنّ نسبة المتربصين من الدول النامية لا تمثل إلا عشرين في المائة، في حين أن أرقام الأمم المتحدة تشير إلأى أن أكثر من 85 في المائة من سكان العالم يعيشون في الدول النامية، وأنّ هذه الدول في أمَس الحاجة لفرص تكوين وتدريب لشبابها حتى يكونوا قيادات مستقبليّة تسهم في تطوير مجتمعاتهم وإخراجها من بوتقة الفقر والبطالة.

تفرض هذه الوضعيّة اختلالاً؛ إذ إن فرص التدريب في الأمم المتحدة لن تقوم على المؤهلات العلميّة والامتياز الدراسي وقدرات المترشح وخبراته، وإنما أساس على إمكانياته الماديّة، وهو ما يتعارض حتماً مع أحد أهم أهداف الأمم المتحدة، خاصة بعد المصادقة على "أهداف التنمية المستدامة 2030"، وخاصة الهدف العاشر المتمثل في الحد من انعدام المساواة داخل البلدان وفيما بينها؛ إذ من الجلي أن سياسات الأمم المتحدة في خصوص التربصات غير مدفوعة الأجر تسهم مباشرة في توسيع الهوة بين الدول النامية والدول الغنيّة وفي التخلي عن دور الأمم المتحدة في تحقيق العدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق بين الدول والقارات، وبناء منظومة عالميّة متوازنة شفافة وعادلة؛ حيث لا يمكن أن تدعو الأمم المتحدة الدول في كل مناسبة للسعي لتقليص الفوراق الاجتماعيّة في الصحة والتعليم والنقل والسكن بين مواطنيها، وهي تكرس داخليّاً سياسات معاكسة لما تدعو إليه.

تتعارض هذه السياسة كذلك مع ما تدعو إليه الأمم المتحدة من أن الدول النامية عليها الاعتماد أكثر على رصيدها البشري الوطني والمحلي والتقليص من نفقات جلب خبراء من الخارج يتقاضون آلاف الدولارات من أجل تقديم استشارات ظرفيّة في مدة قصيرة، إن دعم الأرصدة البشريّة للدول النامية لن يمر إلا عبر إعطاء فرص متكافئة للشباب من هذه الدول حتى يبنوا قدراتهم المعرفيّة وحتى يطوروا تجاربهم المهنيّة في منظمات الأمم المتحدة التي تمثل كل دول العالم لا فقط الدول الغنيّة. رغم طرح هذه القضيّة إعلامياً منذ سنة تقريباً حين تصدرت عناوين الصحف الأوروبية قصة الشاب المتربص في الأمم المتحدة في جنيف الذي التجأ إلى السكن في خيمة على ضفاف بحيرة جنيف؛ لعدم استطاعته تسديد نفقات السكن لم يشهد الوضع أي تغيير ملموس، في ظل تصريحات لعديد من المسؤولين في الأمم المتحدة بأن المسألة معقدة وتحتاج لتغيير في القوانين الأساسيّة، وهو أمر يتطلب موافقة كل الدول وفترة زمنية مطولة للإعداد.

ربما لا يبدو الكثير من السياسيين والمهتمين في بلادنا العربيّة الأهميّة لهذه المسألة ويعتبرونها ثانويّة أمام القضايا الإقليميّة الكبرى في المنطقة، لكن التحليل الجيّد والعميق لنتائجها يمكن أن يدفع بها في سلم أولويات الدبلوماسيّة العربيّة في الفترة القادمة، خاصة مع اقتراب موعد انتخاب أمين عام جديد للأمم المتحدة، إن عدم العمل على توفير فرص متكافئة للشباب العربي مثل الشباب الأوروبي والأميركي سيسهم في تواصل ضعف التمثيل العربي في منظمات وهيئات الأمم المتحدة، فالمعلوم أن أكثر من 80 في المائة من العاملين حالياً في الأمم المتحدة وهيئاتها كانوا سابقاً متربصين بها.

تمثل هذه القضيّة دعوة جديدة لإعادة التفكير في هيكلة وأدوار الأمم المتحدة؛ حيث صار من الواضح أن الوضع الحالي القاضي بسيطرة خمس دول فقط على مجلس الأمن، وباحتكار بعض دول المناصب الرئيسيّة والقياديّة في المنظمة وبعدم توفير إمكانيات تدريب متكافئة لكل الشباب من كل الدول يزيد من تعميق أزمة الثقة بين الأمم المتحدة وغالبيّة شعوب العالم النامي، ويفقد الأمم المتحدة دورها المركزي كصمام أمان للأمن والاستقرار والتنمية في العالم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد