سقطت الأمطار على الهرم الأكبر القابع في صحراء الجيزة وبللت العمود الحديدي المغروز في قمته.. ثوان وضربت صاعقة شديدة ذلك العمود فسرت الرعشة الكهربائية في جسم الهرم.. انتفض الفرعون النائم في حجرة الدفن وحاول النهوض فخبط غطاء التابوت رأسه، وردّه ردة شديدة نائماً مرة أخرى.
سبّ الفرعون دين رع.. وتحرك غاضباً رافصاً الغطاء الحجري الثقيل بقوة نطرته أمتاراً للأعلى فسقط متهشماً.. قام الفرعون غاضباً متألماً يتحسس البروز الناتئ في جبهته من الخبطة.
دقائق قليلة كانت كافية ليستعيد الفرعون كامل وعيه، هالته الملابس الرثة التي يرتديها وكمية التراب التي تعلو جسده.. نادى على الخدم فلا مجيب.. أيها الكسالى، عليكم لعنة آمون، أين أنتم؟ أيها الحرس.
نادى ونادى ونادى ولا مجيب. وحده صدى الصوت عاد إليه.. تفوّه الفرعون ببضعة كلمات أبيحة وهو ينفض التراب عن جسده وملابسه.. نظر حوله فلم يجد سوى فراغ الحجرة يحيط به.. حاول جاهداً تبين المكان في تلك الظلمة.. إنه ليس قصره بالتأكيد.. آلمته رأسه فتحسس البروز في جبهته وهنا تذكر التابوت.
– هااااار إسوخ.. من وضعني بالتابوت.. أنا ميت واللا ماذا؟ إنه المدفن الخاص بي بكل تأكيد.. أنا في الهرم.
جلس الفرعون دقائق يستوعب الصدمة، لكن استيعابه لم يزده إلا رعباً.
انتفض الفرعون قائماً، وخبط صدره وصرخ محدثاً نفسه:
– جرى إيه يا أبوالفراعين؟ هو فيه فرعون بيخاف؟ إنني الفرعون ابن الإله.
تذكر أنه وحيد ولا يوجد أدنى داعٍ لترديد تلك الفشرة الكهنوتية، فطرد الفكرة وتشبث بأخرى.
– أنا الفرعون العظيم ملك الوجهين العلوي والسفلي.. أنا خوفو بكوي نبو مجدر نبتي العظيم، أنا المحمي من الإله خنوم، أنا ابن سنفرو العظيم.
تغلغلت الفكرة والفشخرة الفرعوني في أوصال الفرعون خوو فوو فصلب طوله وازداد طولاً على طوله.
تذكر الفرعون أن مدفن الست الوالدة الملكة حتب حرس لا يبعد كثيراً فقرر الذهاب إليها، حيث أن مدفن والده يبعد كثيراً.
بحث حوله عن أدواته وملابسه فلم يجد.. برطم بالشتائم وسبّ رع وآمون وخنوم وسبك وحورس وكل الآلهة التي أتت على باله حينها.
كيف ينزل دون زينته ودون ذقنه الذهبية وصولجانه.. ماذا سيقول عنه العامة؟ هل سيصدقون أنه الفرعون الإله؟
فكّر كثيراً كيف سيفسر لهم حالته الرثة تلك.. لكنه لم يتعب كثيراً في التفكير.. يمكنه أن يقول إنه كان في معركة مع الإله "ست" إله الشر والظلام.. وإنه انتصر بعد معركة شرسة خرج منها على هذه الحالة، وأن البروز في رأسه ناتج من روسية إسكندراني أعطاها للإله في أم رأسه جابته أرضاً.. وأنه رجع إلى أرض الوطن راكبا إحدى مراكب الشمس الراكنة في الباركينج بتاع المدافن.. وسوف يصدق العامة ويهللون بل قد يجعله عيداً يقدمون فيه القرابين، والكهنة ما هايصدقوا، محدش بيقول للرزق لأ.. ورزق الهبل ع المجانين.
قصد الفرعون خارجاً من حجرة الدفن وتحسس طريقه جيداً.. كان يحفظ المكان ككف يده ولم يكن بحاجة لمشاعل ترشده للخارج.
لفحته موجة هواء باردة فارتعش جسده.. وبالرغم من أنه كان طول بعرض.. حاجة كده تملا العين إلا أنه أصيب بنوبة شديدة من السعال عندما حاول أن يأخذ نفساً عميقاً من الهواء المنعش خارج المقبرة.
سبّ الآلهة وتوعّد وزيره بالويل والثبور وعظائم الأمور.
– ما هذه الرائحة العفنة.. رائحة تراب وزيوت وأبخرة سيئة.. وشرف أمي الملكة "حتب سرت" ما أنا عاتقهم كلهم.. فين البخور وخشب الصندل اللي أنا باعت جايبه مخصوص من بلاد بونت؟
بحث عن السلم الحجري لينزل عن الهرم وهاله منظره.. نظر متفحصاً ثم رفع بصره ليتفقد جسم الهرم.. هنا صرخ بكلمة فرعونية نابية وأصدر معها صوتاً حشرجياً من حنجرته.
– هذا لا يمكن أن يكون هرمي.. أين هرمي يا ولاد ال…..
شتائم ولعنات ووعيد وتهديد انطلق من فم الفرعون. المذهول.. شاط حجراً بقدمه من الغيظ فخبط صباعه الصغير خبطة قوية خلعت الظفر.. صرخ ألماً وانحنى يرى إصبعه فتدحرج على الصخور هاوياً.. وارتطم جسده بالأرض رطمة أحس معها بأن عظامه المقدسة فقدت قداستها.
ظل نائماً على ظهره متألماً ومحاولاً استعادة رباطة جأشه.
– إنه غضب من الآلهة بلا شك.. ولكن من يجرؤ من الآلهة على إيذاء الفرعون الإله ابن آمون العظيم.
جمع شتات نفسه وعقله ونهض واقفاً.. تناسي ألم إصبعه الصغير الدامي وبروز جبهته وطقطقة عظامه.. اعتدل ووقف وقفة فرعون وعدل من ملابسه ونظر حوله يستطلع المكان.
كان الليل يلف المكان.. شاهد على الضوء الشاحب هيكل هرمين آخرين وتمثال عظيم لأسد مهيب يقبع في السفح.
– إيه الأهرام دي؟ ومن صنعها دون إذن مني؟ وما هذا التمثال؟ وجهه يبدو مألوفاً لي، لكني لا أستطيع تحديد من؟
تفحص الفرعون المكان وشاهد على بقايا الضوء هيكل إنسان يلبس ملابس سوداء ويحمل سلاحاً أشبه بالرمح.. تهلل وجه الملك واتجه إلى الإنسان الضئيل المتشح بالسواد.. أيقن أنه أحد الحرس بكل تأكيد.. لكنه لا يلبس ملابس ضباط الفرعون.. لكن لا بأس، لعله يلبس هكذا ليحتمي من البرد والمطر.
– أنت؟
التفت العسكري صميدة عبدالمتولي فزعاً.. ونظر برعب للشخص الضخم الطويل الذي يناديه. أشهر بندقيته في وجهه.
– إنت مين؟
– أنا الفرعون الإله؟
– وحياة أمك؟
(صرخ الفرعون غاضباً)
– أتجرؤ على ذكر أمي مجرداً من ألقابها المقدسة أيها الصعلوك.. أنت هالك لا محالة.
– بطاقتك ياض بسرعة واللا هاطلع (تييييت) أمك المقدسة حالاً.
– بماذا تثرثر أيها الأبله.. انصرف وأحضر لي قائد الحرس والوزير وكبار الكهنة.
– بقولك إيه ياض.. إنت شكلك ضارب حاجة ومهيبر.
– تأدب أيها الحارس واركع.. أنت في حضرة الفرعون.
– يا مثبت العقل والدين.
– اخفض سلاحك هذا.. أعطني هذا السلاح ثكلتك أمك.
يتقدم الفرعون ليختطف السلاح من "صميدة".
– خطوة واحدة وهاضرب في المليان.
يواصل الفرعون تقدمه ويحاول خطف السلاح.. يضغط صميدة الزناد فينطلق الرشاش مسدداً وابل من الطلقات لجسم الفرعون.
ارتد الفرعون تحت تأثير الطلقات وسقط أرضاً.. تقدم صميدة ليفحص الجثة.. فوجئ به ينهض من التراب غاضباً ليتفقد الثقوب الكثيرة التي أحدثتها الطلقات في جسده. يسقط صميدة مغشياً عليه من الرعب.
فكر الفرعون المرتعد من الغضب والبرد والإحساس بالإهانة أن يطأ رأس صميدة بقدمه المقدس الثقيل فيهشمها.. لكنه تذكر أن صميدة هو أمله الوحيد في هذه الصحراء الجرداء للبحث عن الحرس والجيش والحاشية.
رفسه الملك بقدمه برفق.. فالفرعون الإله لا يلمس الرعية.. رفسة أخرى وأفاق صميدة.
نظر صميدة في اللاشيء وهز رأسه مرات علّ هذا الحلم السخيف ينصرف.. كان متأكداً أنه العدس البايت هو السبب.. منه لله الشاويش عيسوي.. قاله خسر كرشك ولا تخسر قرشك وجعله يأكل منه.
أغمض عينيه وفتحهما مرات ومرات، وكل مرة كان يرى نفس الشخص ينظر إليه بحدة.
– هي شورة سودة أنا عارف.. انصرف.. انصرف لا تؤذينا ولا نؤذيك.
وبدأ يتمتم بقراءة آية الكرسي والفاتحة والمعوذتين وكل ما أسعفته ذاكرته به.
لكن الفرعون لم ينصرف.. بل سأله:
– إنت ساحر؟ إيه التعاويذ دي؟!
– إنت مين يا حاج إنت وعايز مني إيه؟
– أنا الفرعون خوو فوو ابن الإله حورس والإله آمون العظيم.
– صح.. وأنا نابوليون بونابرته والبت جوزفين مراتي حامل في شهرها التامن ومش عايز الواد يتولد يتيم يسترك ربنا دنيا وآخرة.
– ربنا.. بأي الآلهة تؤمن؟
– هاااار إسوخ.. آلهة؟! يعني لما يطلعلي عفريت يا ربي، يطلع من الكفار! ده باينه مرار طافح.
– كف عن الثرثرة.. أنا الفرعون الإله.. من أنت؟
– أنا صميدة عبدالمتولي عسكري الخدمة على المنطقة دي.
– عسكري؟!
– جندي يا مولانا.. جندي يابا.. باحرس المكان.. طاخ طوخ.
– جندي.. إمممم.. والذي ضربتني به سلاحك؟ صح؟
– سلاحي.. يا لهوي.. سلاحي.. فين سلاحي؟
ينهض مفزوعاً يبحث عن رشاشه.. وعندما يجده يحتضنه احتضان أب لابنه الذي تاه منه في المولد.
– دي عهدة يا والدي وتطير فيها رقاب.
– والدك؟ أنا أبوك؟
– أبويا ايه؟ لأ.. بس يشرفني يا سمو العفريت.
– إذن كيف تدعي أنني أبوك؟
يفزع صميدة ويحاول الكلام فيقاطعه الفرعون:
– اذهب واستدعي كبير الحرس والوزير والكهنة.. أخبرهم بأن الفرعون ينتظر في سفح المقبرة.
– مقبرة؟ هي فين المقبرة؟ يا سنة سوخة.
– اذهب أيها الجندي ونفذ الأمر.
– حاضر.. حالاً.. ثواني وهاجيب الوزير والأمير وخفير الدرك وكل الناس.. خليك إنت جنابك منتظر هنا.. مش هاتأخر عليك.
ينطلق العسكري ويتنفس تنفس الغريق الذي أنقذوه للتو من الموت غرقاً.. يجري ويسقط ويجري ويسقط.. لكنه لا ينظر للوراء.
(يتبع)
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.