نضطر في كل مرة نتعرض فيها لهذا الاختبار لشرح البديهيات.. شرح البديهيات ليس بالأمر البسيط كما يظن الكثير، هو أعقد ما يمكن أن يصادفنا كجماعات مأزومة الهوية. فالمجتمع الذي تختلط عليه البديهيات وتتداخل يسير بلا شك نحو الهاوية بعد تخطيه مرحلة التفكك.
البداهة الجغرافية في هذا اليوم تؤكد أن طريق القدس لا تمر عبر جرمانا السورية، لا (إل جي بي إس) يقول هذا ولا الطريقة التقليدية بقياس المسافات. في يوليو/تموز 2008 وفي خطاب التحرير قال سمير القنطار إنه لم يخرج من فلسطين إلا كي يعود لها. كان الرجل صادقًا وكنت أصدقه وأنا الذي كنت أجمع قصاصات رسائله من جريدة السفير وأحتفظ بها تعويضا عن غياب صوته وصورته خلف أسوار السجان المحتل. كان صادقا وحرًّا، ربما لأنه لم يتلوث بعد في نظام المصالح المحرك للسياسة.
كان القنطار حرا أكثر عندما كان في السجن، وحينما خرج أمسى قطعة أثرية في مصنع السياسات الضيقة. رحل القنطار في العشرة الأواخر من هذا العام على يد عدو لا يختلف اثنان على عدوانيته وعداوته لنا كلنا، ومن المفترض أن لا نختلف على وجوب التصدي له ومقاومته بكل الوسائل.
رحل القنطار حاملا فلسطين القضية وحلم العدالة، ولا يشكك أحد في إخلاصه لهذه القيم وتقدير هذا الإخلاص في شخصه. فمن المفيد تذكير المبتهجين أن إسرائيل لم تقتل القنطار بدعوى مشاركته النظام السوري حربه ضد الشعب منذ 2011، ولكن لثأرٍ لها معه، رغم قدم الثأر ومحدودية قيمته السياسية اليوم.
خرج سمير القنطار من أسر سنينه الثلاثين بلقب عميد الأسرى العرب، خرج من الزنزانة في 2008 ولكنه خرج قبل ذلك بكثير من فعاليته السياسية والعسكرية وبقي أيقونة للمقاومة غير المحزبة متحولا لرمزٍ للنضال والإيمان المتشبث بالقضية العادلة.
هذا الخروج القديم للقنطار من تكتيك السياسة والعسكر بعيد عمليته في العام 1979 لم يقنع به القنطار فيحيل نفسه إلى التعاقد، بل أراد من خروجه الفيزيائي من أسوار المحتل عام 2008 فرصة لدخوله المعنوي والجسدي في الصراع مجددًا. ولكن أي صراع؟ في الصراع الجديد لم يعد هناك إمكانية لتسمية أي عملية ضد المحتل بعملية "جمال عبدالناصر" (اسم العملية التي أسر فيها القنطار).
كان ثمن تحرر القنطار، أسره في الحلف الضيق، من الضاحية إلى طهران وانسحابه من القاهرة والمغرب العربي وكان تحرره خروجاً من النستولوجيا عن المقاوم المترفع عما يثقلنا اليوم من حزبية وطائفية وانقسام. كان خروجه من السجن خروجه من الذكرى، من كلاسيكية كارلوس ووديع حداد، وانضوائه تحت حلقة الحزب الأقوى في لبنان عسكريا وطائفيا.
لم تكن خيارات القنطار بعد الخروج متناسقة مع تاريخه داخل المعتقل، وقد جاءت الثورة السورية كي تضعه في صف من يمحو تاريخه بموقف سياسي خاطئ ويشوه مفاهيم ويسقط قيماً كانت لوقت طويل تعتبر الملجأ الأخير لشعوب المنطقة، هروبا من قمع حكامها وارتهانهم للغرب.
أصبح القنطار بإرادته المحضة ووعيه السياسي مجرد مسمار في آلة القتل للنظام السوري. من هنا ليست هوية القاتل من تحدد الموقف من القتيل، غير أن موقع الأخير في الربع ساعة الأخيرة من حياته ما يشكل موقفنا عنه.
انضوى القنطار ضمن خيار الموت الساحق الذي اتخذه النظام السوري في مارس/آذار 2011 ردًّا على أصوات الحرية المتصاعدة من الشباب السوري، واغتيل في جرمانا القريبة من الغوطة في صف هذا الخيار، المنطقة التي تتعرض لقصف ممنهج شبه يومي بالبراميل المتفجرة الخارجة من قواعد النظام الداعم له أسطورة الأسر اللبناني.
الراحل رحل منذ زمن من مبادئه التي آمنا بها فأيدناه تصديقًا لقناعاتنا وليس حبًّا به، فهو لم يكن مطرباً أو سينمائيًّا كي نختلف معه على أعمالٍ لم تعجبنا، كان القنطار جزءا من تاريخنا الحاضر، مناضلاً ومتورطًا ولنا أن ننظر إليه كلٌّ من موقعه أيضًا.
نحن لم نر في مقاومة القنطار لإسرائيل إلا إعلاءً للعدالة وانتصارًا للفقراء ومسحوقي السياسة وضحايا الحروب ودفاعًا عن المظلومين، ولم نر شيئًا من هذا القبيل في وجوده داخل سوريا إلى جانب نظام يريق دماء السوريين ولا يكتفي ويقتل مقاومين معنويًا بتوريطهم في حربه الوحشية ويشوه تاريخهم المشرق في لحظة نضال عابرة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.