في إطار سياسته الرامية إلى إفساد المجتمع السوري والمؤسسات التي تدير الدولة، ابتكر "نظام" الأسد طرقاً كثيرة تكفل -من جهة- إضعاف المجتمع، ومن جهة أخرى تساعد "العصابة" على الاستمرار في اغتصاب السلطة لفترة أطول.
لا يمكن حصر الطرق التي اعتمدوها لتمتين سطوتهم على رقاب السوريين؛ لكثرتها وشمولها كل جوانب الحياة؛ ولعل من أبرزها ابتكارهم لطرق "تنفيعة" الموالين لهم، ومنحهم الفرص لدخول "عالم التجارة والأعمال"؛ ليتحولوا من "مفلسين لا يحسدون" إلى أصحاب مال وأطيان، تضعهم في "بآبئ" (البعض يجمعها بيابي وبآبي) عيون الحساد، دون حاجة لرأس المال، ومن غير تكلفة حتى ولو كانت قرشاً سورياً واحداً.
كثيرة هي أنواع هذه التجارة التي دفع السوريون دمهم فيها، ولعل التجارة بالمعتقلين في مقدمتها، وهي الأكثر والأسرع نفعاً والأقل مسؤولية؛ وهذه التجارة موجودة منذ الأيام الأولى لاستيلاء الأسد (الأب) على السلطة في بداية سبعينيات القرن الماضي، وازدهرت بشكل لافت في ثمانينيات القرن الفائت، بعد أحداث حماة واكتمال احتلال لبنان.
أبرز ما يميز هذه التجارة أنها تركت هامشاً "مرحرحاً للحسة إصبع" للموالين من غير عائلة الأسد، لهذا فإنها شملت مختلف طبقات الموالين وطوائفهم، وبقيت في ازدهار دائم ومتزايد، يتناسب طرداً مع ازدياد النقمة على النظام، خاصة أن النظام منذ لحظة ولادته، لا يبحث -عادة- عن مبررات وأسباب موجبة لاعتقال المواطنين، وزجهم في معتقلات قل نظيرها في العالم من حيث حجم الإجرام، ويكفي أن نذكر ما كتبه الصديق أحمد ناصر على صفحته الفيسبوكية؛ لنعرف أن الاعتقال قد يكون لأسباب واهية لا تخطر على البال، إذ يشير إلى أنه في:
"مرة من المرات، بالتسعينيات، كنا قاعدين بكافتيريا نتابع مباراة كرة قدم، وفجأة انقطع البث لإذاعة خبر وصول حافظ الأسد من زيارته لإحدى الدول، فاضطر صاحب الكافتيريا لتغيير القناة مباشرة بحثاً عن قناة تنقل المباراة، ومن يومها وحتى اللحظة لا نعرف أين أراضي الأخ سالف الذكر.. البعض يقول إنه رآه في سجن صيدنايا مؤخراً.."
أو كما هو الحال اليوم؛ إذ تمتلئ صفحات الفيسبوكيين السوريين بآلاف القصص عن اعتقالات لأسباب تتعلق أحياناً بأن شكل الشخص لم يعجب ضابط حاجز التفتيش، أو أن مواطناً امتنع عن دفع رشوة صغيرة كي يمر من حاجز ما، أو أن "يلقط" عنصر أمن مواطناً يتأفف همساً من سوء معاملته!
أمام هذا كله، لكم أن تتصوروا حجم هذه التجارة وكثرة مواردها، خاصة أن المعتقل لا يكلف النظام إلا النزر اليسير، وفي أحسن الحالات حبة بطاطا مسلوقة وأربع حبات زيتون وشقفة من رغيف خبز وحبة بندورة أو خيار يومياً، وفي هذه الأيام غالباً ما تكون هذه الكمية الكبيرة (!!)، حصةً يومية لأربعة معتقلين في أقبية الأمن الموزعة في كل زاوية من زوايا مناطق سيطرته.
في سبعينيات القرن الفائت كان التشكيك بموقف النظام من فلسطين، أو الإشارة إلى دور حافظ الأسد في تسليم الجولان، هما السبب الرئيس للاعتقال، وعلى حافتهما الاتهام بالتعامل مع الرجعية والإقطاع، وكان العنوان الجاهز للاتهام -غالباً- هو النقص في الحس القومي، ووهن نفسية الأمة، وكانت المخابرات الجوية التي يقودها محمد خولي هي صاحبة اليد الطولى، إضافة إلى جهازي الأمن السياسي والجنائي في حالات قليلة، إلى أن بدأ نجم علي دوبا ونائبه أحمد عبود يسطع أواخر السبعينيات، ونفوذه يتمدد، فأصبح الأمن العسكري في المقدمة ممثلاً بفرع فلسطين، الأشهر في الدموية.
رافق ذلك دخول تهمة جديدة في قاموس الاتهامات، هي الانتماء إلى اليمين العراقي الرجعي، وأصبح الاعتقال "على أبو موزة" خاصة في مناطق الشمال السوري؛ ومع بدايات ثمانينيات القرن الفائت أضيف "الإخوان المسلمين"، وجماعة رياض الترك ورابطة العمل ليتصدروا قائمة المعتقلين، إضافة إلى كمّ لا بأس به من اللبنانيين الرافضين للاحتلال السوري للبنان.
بالتوازي مع هذا التطور أضيفت سجون جديدة، أصبح بعضها علامات فارقة في تاريخ السجون العالمية، فبعد أن كان سجن المزة وسجن الشيخ حسن إلى جانب أقبية فروع المخابرات وإداراتها هما الأكثر شهرة، أصبح سجن تدمر، المخصص أصلاً للهاربين من الجيش، علامة فارقة وذائعة الصيت.
هذه المعتقلات توزع فيها المعتقلون وتم تصنيفهم إلى درجات، بعضها لا يشم الهواء والداخل إليها مفقود حتماً، وهنا نتذكر مأثرة وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس، الذي أشار في مذكراته إلى أنه كان يوقع 150 قرار إعدام يومياً، عدا "الفراطة" الذين يموتون من هول ما يلاقون، فيما هناك -إلى جوار هذه السجون ذائعة الصيت- سجون يمكن فيها للأهل أن يؤمنوا زيارات دورية لأبنائهم، بعد دفع المعلوم، كسجني عذرا وصيدنايا.
هذا التصنيف للسجون رافقه تصنيف لتجار الدم، وبدأ ظهور العلامات التجارية للمراتب المختلفة.
معتقلو تدمر، من سوريين ولبنانيين، لا يمكن إلا للمقربين من عائلة الأسد، أو أمثال علي دوبا أن يتدخلوا ويسألوا عنهم، وهنا برزت شخصيات اشتهرت بين السوريين، منهم على سبيل المثال لا الحصر، شقيقة حافظ الأسد وعمة الرئيس الحالي المكناة بأم النور، وهي المتحكمة الأولى بميناء طرطوس وما يتعلق به من صفقات وتهريب، وهذه "الورعة"! كانت تعتبر أن أخذ المال من أهل المعتقل حرام يعاقب الله عليه؛ لهذا اشتهرت بقبول الهدايا العينية، شرط أن تكون من سبائك الذهب الخالص، وكل ما تقدمه مقابل ذلك، وفي أحسن الأحوال، منح أهل المعتقل فرصة لرؤيته من مسافة بعيدة، ومن خلف الشبك، فيتأكدون أنه ما زال على قيد الحياة.
ومن تجار سجن تدمر، أيضاً، يمكن تذكر مديره لسنوات طويلة فيصل غانم، وكانت أخته من أبرز سماسرته وعيونه، التي تلتقط أصحاب الحاجة، وقيل إن سبب عزله أنه تجرأ وبنى في ضيعته قصراً ضاقت عيون حافظ الأسد منه.
وطبعاً هناك علي دوبا ومحمد خولي وأحمد عبود، خاصة أن المعتقلين في تدمر هم بالأصل أمانة لصالحهم، وكذلك لعبدالحليم خدام نائب الرئيس حصته، وأغلب زبائنه من اللبنانيين جماعة الدفع بالدولار وتسليمه خارج الحدود السورية.
ووصلت التجارة في سجن تدمر إلى قمة ازدهارها بعد أحداث الثمانينيات، حين تم زج آلاف السوريين بتهم الانتماء إلى تنظيم الإخوان المسلمين وإلى بعث العراق، أو إلى بعض الأحزاب والتنظيمات الشيوعية، وازداد عدد التجار المنتفعين، وبرز منهم عبدالله الأحمر وأحمد قبلان وأحمد دياب وناجي جميل وحكمت الشهابي وإبراهيم الصافي وشفيق فياض وعلي حيدر ومصطفى التاجر، وغازي كنعان الذي انتحر لاحقاً بعشر رصاصات، إضافة إلى اللبنانيين أصحاب الحظوة لدى النظام السوري، من عائلات فرنجية والهراوي وبري ومراد وجنبلاط والأشقر وسعد وحاوي وحبيقة وغيرهم.
في المرتبة التالية يأتي سجن المزة بعراقته، وهذا السجن مع أقبية المخابرات، هي أماكن استراحة وعبور وفرز قد يطول سنين، فإما التحويل إلى عذرا وصيدنايا أو إلى تدمر، بالطبع عدا السجناء التاريخيين فيه أمثال نور الدين الأتاسي الذي خرج منه إلى القبر.
في سجن المزة كان يمكن لـوساطة مأجورة من عضو قيادة قطرية أو رئيس الوزراء أو رئيس مجلس الشعب أو بعض أسقط الوزراء، أن تؤتي أكلها، وهنا يلمع اسم والدة زهير مشارقة نائب حافظ الأسد كعلامة بارزة، واغلب زبائنها من الحلبيين، وما أكثر معتقليهم، كما يبرز مصطفى طلاس، والأبرش رئيس مجلس الشعب وزوجته اللبنانية، والمطربة ميادة حناوي عندما كانت زوجة لوزير الداخلية الدباغ، وآخرون كثر، خاصة من اللبنانيين الذين يقبضون بالدولار ويدفعون حصة أولياء أمورهم به!!.
أما سجنا عذرا وصيدنايا فقد ترك فيهما هامش للمراتب الأصغر، كرؤساء الأفرع الأمنية، مثل رستم غزالة الذي تم "شقه" إلى نصفين، حين جاء أوان التخلص منه كشاهد رئيس على اغتيال الحريري، وبعض الوزراء وأعضاء مجلس الشعب ورؤساء المنظمات الشعبية، وبعض من أعضاء الجبهة الوطنية المقربين من حافظ الأسد وبرز منهم فايز إسماعيل، وآخر من بيت عثمان كان رئيساً لحزب معارض!! تأسس في أفرع المخابرات السورية، وذياب الماشي عضو مجلس الشعب الأزلي، الذي أورث عضويته على غرار توريث حافظ لابنه، وقبله ومعهرئيسة الاتحاد النسائي، وفي فترات لاحقة برزت أسماء مثل عمار ساعاتي وأخته المقربة المدللة لدى ماهر الأسد، وإياد غزال الذي يملك اليوم برجاً في دبي، بل حتى قبيسيات كفتارو كان لهن "لحسة إصبع" من هذه التجارة الرائجة، ومثلهن بعض الفنانات أمثال نورمان أسعد ورنا أبيض والفنانات المقربات من ماهر الأسد وضباط الأمن، وبعض رجال الدين المرضي عنهم وعن تقاريرهم الأمنية!
مع انطلاق الثورة ومع الاعتقال الكثيف، أصبحت أقبية مقرات الأفرع الأمنية سجوناً بديلة عن سجن تدمر وقسوته، وبرز منها مقر الفرع 215، الذي شهد قتل آلاف المعتقلين، وكان يديره حافظ مخلوف ابن خال رأس النظام، كما دخلت عناصر الدفاع الوطني التي تعتقل لحسابها وبرز نجم فاطمة مسعود زوجة هلال الأسد وهالة الأسد أخته، والفنان (!!) بشار إسماعيل، ورؤساء الأفرع الأمنية، وبعض بطاركة الكنائس، وعضوي مجلس الشعب أحمد شلاش والمعلق السياسي شريف شحادة؛ وكثير من الجميلات اللواتي يتأبطن مدير فرع أمني هنا، أو ضابطاً في القصر الجمهوري هناك، بل وحتى مساعد في الفرع!
أما لبنانياً، فقد وصل الأمر بحزب الله إلى أن يفتتح سجوناً خاصة به، يدير تجارتها لحسابه، دون أن يجرؤ مسؤول سوري على التدخل، حتى لو كان الدمية التي تجلس على رأس هرم النظام!!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.