مايو موسم الأحزان

كان مايو ذكرى نجدد الحزن فيها على ما حلَّ بشعبنا على يد العدو الصهيوني الغاشم من قتل وطرد وتشريد بالقوة والدم، وعهداً على مواصلة الكفاح، حتى تقر عيوننا بالعودة إلى ديارنا، لكن مايو اليوم حزين علينا، وعلى ما أصاب قضيتنا من نكسات وويلات على يد أحزاب ونخب سياسية، أسقطت حقوقنا المشروعة، فزادتنا غربة وضياعاً.

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/16 الساعة 02:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/16 الساعة 02:58 بتوقيت غرينتش

لم تكن ليلة هادئة تلك التي توسطت شهر مايو/أيار من عام 1989، فقد انخفضت أصوات محركات جيبات مشمارقفول العسكرية في بدايتها؛ لتتوقف أخيراً في منتصف المخيم، محدثة ضجة كبيرة اهتزت لأجلها البيوت عن آخرها قلقاً وخوفاً، فالجميع هنا يعرفون تمام المعرفة أن توقف دورية الجيش الإسرائيلي في مثل هذا الوقت من الليل لا ينبئ بخير.

تتسرب بين الأزقة نسمة هواء باردة، تهدهد قلوب المتقوقعين تحت ألواح الصفيح، تهدِّئ من روعهم ما استطاعت، وتمنحهم شيئاً من الطمأنينة، يستطلعون به الأمر، يسترقون السمع، فقد علا صوت ضابط الدورية الغاضب يرطن بالعبرية عبر جهاز اتصال لا سلكي، يخاطب مركز القيادة: "علم المنظمة مرفوع في المخيم، أنا الآن أشاهد علم منظمة التحرير يرفرف على أحد الأعمدة الخشبية داخل المخيم".

تتدحرج إلى المخيم قوة عسكرية إسرائيلية أخرى مدججة بالسلاح، تدق الأبواب بأعقاب البنادق، تقتحم البيوت تبعثر ببساطير عساكرها محتوياتها، وتدمر منها ما شاءت، تتركه حطاماً مهشماً بعدما كان متاعاً نافعاً، تقتاد الرجال إلى الشارع، تسحبهم بقوة، تدفعهم بلا رحمة، يأمرهم الضابط الإسرائيلي بعربية مكسرة: "كُلُّو اقف عالحيط، ارفع إيدك، طمِّل راسك" يدور حولهم، يبحلق في وجوههم وهو يستنشق سيجارته، يلفظ بها غيظاً يحتدم في جوف قلبه، فقد حطَّم مشهد العلم الفلسطيني المرفوع في عنان السماء كبرياءه، وهُزم جبروته أمام إصرار الفلسطيني على نيل حقوقه في الحرية والعودة إلى وطنه، يصرخ: "مين رفعوا فوق؟"، فلا مجيب ولا جواب، فحين تعدم وسائل الثأر، يبقى الصمود في وجه العدو ثأراً مقدساً، تسلق جنود القوات الخاصة الصهيونية العمود الخشبي، أزالوا العلم، دنَّسوه وداسوه بأقدامهم.

لم يعرف الألم طريقاً إلى قلوب الرجال في تلك الليلة، على الرغم مما أصابهم من تعذيبٍ وإهانةٍ قاسيةٍ، لم تُرفع عنهم إلا بعدما مزَّق ضوء الفجر ستائر الظلام، فكل ما بعد النكبة أهون منها، فهي فاتحة الشقاء والمصائب، ولن يمر على الفلسطينيين حدث أسوأ من تهجيرهم من قراهم وديارهم.

تمر بعد ذلك ليال بعضها أظلم من بعض، وبعضها أطول من بعض، تتزاحم فيها على الظفر بالارتفاع على قمة العمود الخشبي أعلام مختلفة الألوان، ومتعدّدة الأحجام، كلما اهترأت واحدة رفعت أخرى، كل واحد منها يرمز لحزب سياسي اختصر الوطن بين قوسيه فصبغه بصبغته، وعرفه بهويته، وروى تاريخه بمنهجيته، وصار الوطن على غير طريقه خيانة ملعونة..!

بعضهم يعرف عن حزبه أكثر مما يعرف عن تاريخ الوطن، وثوراته وأعلامه ومدنه وقراه ومعالمه وآثاره، وقد يعجز عن كتابة أسطر معدودة عن قريته الأصلية التي هُجِّر منها أجداده، في حين أنه يستطيع أن يملي عليك تاريخ الحزب من أوله إلى آخره، تتسع جدران منازلهم وصدور مجالسهم لصور القادة والمؤسسين، لكنها لا تتسع لخارطة فلسطين.

كان مايو ذكرى نجدد الحزن فيها على ما حلَّ بشعبنا على يد العدو الصهيوني الغاشم من قتل وطرد وتشريد بالقوة والدم، وعهداً على مواصلة الكفاح، حتى تقر عيوننا بالعودة إلى ديارنا، لكن مايو اليوم حزين علينا، وعلى ما أصاب قضيتنا من نكسات وويلات على يد أحزاب ونخب سياسية، أسقطت حقوقنا المشروعة، فزادتنا غربة وضياعاً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد