في وقت متأخر من الليل، وبعد ساعات من التحديق في سقف غرفتها المعتم، عزمت على الخلود إلى النوم، ودفن خيباتها في أعماقها، أخذت تنقّل أنظارها في أرجاء غرفتها؛ لتأخذ نظرة أخيرة على مشهد ليلتها العازبة، 3 أسرّة في غرفة تقبع بسكن طلابي في مدينة إسطنبول، كانت تنام على أحدها، وعلى البقية أجساد غريبة لا تعرفها، فتاتان جمعها بهما السكن، إحداهن تعمل في معمل للخياطة تأتي في نهاية اليوم منهَكة وتخلد إلى فراشها دون أي حديث جديد تبادل به الأخريات، والثانية كثيرة الصمت، تفتقد الحياة الاجتماعية، لا يهمها أن تقيم أي علاقة صداقة خارج حدود سريرها وخزانتها.
هذا ليس بيتاً سيزف عروساً في الغد، تلك العروس التي لم تنم وهي تفكر في خيبتها، لم يخطر في بالها يوماً أن هذه هي هيئة أهم لحظات حياتها أو حياة أي فتاة حالمة، ستكون لهذه الدرجة من القسوة والغرابة، هي اليوم عروس تودع عزوبيتها بين فتيات غريبات لا يعرفن حتى أي شيء عن ماضيها وحاضرها، تجبر عينيها على النوم، لا تريد مزيداً من كوابيس اليقظة، فهي عزمت ألا تجلد نفسها بتلك الوساوس، هي الفتاة الصلبة التي لا تُكسر بسهولة، لن يهزمها فستان زفاف لم يُنسَج لها ولا حفل لن يقام لها، لن يهزمها عدم وجود أمها التي رحلت قبل أوان هذا العرس، ولا أقربائها الذين لم يهاتفوها منذ أكثر من 5 سنوات.
في الصباح الباكر، استيقظت والجميع كانوا نياماً، ودعت البيت في صمت وحملت حقيبة سفرها في تثاقل، لا وداع ولا عناق، فقط نظرات يتيمة إلى زوايا هذا السكن الذي احتواها عدة أشهر في فترتها الدراسية، أحسّت وللمرة الأولى بأن الجدران لها نبض وذاكرة، تشعر بدموع سريرها الذي تفارقه ومقعد دراستها.
تذكرت يومَ عرَض عليها ذاك الشابُ الزواجَ، لم تفرح بقدر خوفها من أن تحين هذه اللحظة، فهي كانت تتخيل هذه اللحظات بأدق تفاصيلها وكأنها تعلم عين اليقين بوقوعها وقدرها المحتم في أن سعادتها في هذا اليوم ستُسرق منها، حاولت أن تجعل هذه اللحظة بعيدة، أو أن تخفيها حتى من شريط العمر، هي لا تريد أن تشعر بحاجة هؤلاء الأشخاص الذين ما عادوا أصلاً على قائمة المتصلين.
أن تكوني عروساً فأنت بحاجة إلى مجتمع نسائي بأكمله الى جانبك قبل أن تحين تلك اللحظة، أن تكوني عروساً يعني أن حاجتك لأمك ستتضاعف بشكل متسارع لا يُصدق، فلا يوجد متكأ غيرها ولا ملجأ، لكن -كدت أنسى- يوجد ملجأ واحد، خالة تحل مكان أمك، لكن ماذا لو فُقدوا جميعاً؟!
كما هو حال عروستنا اليوم!
استقلت القطار السريع متجهة إلى المطار، كانت تنظر في وجوه المارّة، تنتظر سماع كلمة تملَّها العروس يوم زفافها "مبارك"، ألا ينظر أحد إلى عروستنا اليوم ويبارك لها!
وصلت العروس إلى صالة انتظار الرحلة المتجهة إلى ألمانيا، تجر وراءها حقيبة سفرها الصغيرة التي لا تحتوي إلا على حاجاتها البسيطة، على غرار بقية العرائس اللاتي يخرجن معهن سوقاً تجارياً بأكمله!
كانت قنوعاً بما كُتب عليها، إلا أن غصة الوحدة لا تغادر حنجرتها، كانت تعيد لها الذاكرة مشاهد من عقد قرانها الذي أقيم في عليّة منزلٍ صغير بمنطقة "أوسكودار " الآسيوية في إسطنبول، برفقة والدها الذي هرم لأجلها وصديق زوجها الذي كان وكيله في عقد القران، كانت تعلم أن الظروف كانت تغلب الموقف وأن الله شاء أن يمتحنها في أغلب أمور حياتها، ولا سيما غياب أنثى ترافقها في هذه اللحظات (أم، صديقة، خالة، عمة، أخت).
شتت ذكرياتها ذاك الصوت القادم من استعلامات المطار: "أعزائي المسافرين، على عروستنا التوجه للبوابة رقم ثلاثة! النداء الأخير!".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.