لم يعد الإنكار مجدياً..
أشتاق إلى وطني، واستعملت الإنكار طويلاً كحيلة دفاعية لخداع الحياة، سايرت أفكاري أنني مواطن أنتمي إلى الإنسانية والعالم أكثر منه إلى الأوطان بمعانيها السائدة المبتذلة، وتفسيراتها المتحيزة ضيقة الأفق.. وقلت لنفسي أكثر من مرة إننا كمصريين لدينا رهاب السفر والخروج من بلدنا.. ولم أتهم افتقادي للوطن يوماً بأنه وراء فترات اعتلال المزاج.
لكن وقت الاعتراف هو وقت الحقيقة.. وأنا أعترف أنني أشتاق لهذا الوطن.. كثيرا.. كثيرا.. أكثر من توقعاتي عن علاقتي المركبة به.
ما أشتاق إليه في وطني كثير.. لا أشتاق لوطني كما يصوره كتاب الأغاني الوطنية المستأجرين.. أنا أشتاق إليَّ في وطني.. ذكرياتنا، أحلامي التي شاخت، أفكاري التي تكونت، الكتب الأولى التي قرأتها هناك، المسجد الذي أذهب إليه حين الضيق، قبر أبي، مشاعري البكر، شوارعي المفضلة، أماكني الخفية.
أنا يا وطني مشتاق، وهذا الاعتراف ليس كافيا لكنه قد ينفس الغضب المكتوم من الفقدان واللوعة..
ما أشتاق إليه في وطني كثير..
أشتاق إلى هذه الصداقة التي تنمو ببطء وحذر مع مقدم المشروبات في مقهاك المفضل، استقباله لك، تذكره لكيفية إعداد قهوتك، محاولاته لزحزحة الزبون الآخر الذي احتل مقعدك المفضل، واعتذاراته الصادقة إن فشل، ترحابه بك إن غبت، محاولاته المتكررة لفتح الحديث أو إلقاء نكتة إن لاحظ تعكر مزاجك..
أحمد لا تكن سخيفا.. هل تقول إن أضواء العواصم التي زرتها، وشوارع المدن القديمة التي جبتها، لا تغنيك عن حارة المداح ولا شارع المنيرة؟
نعم وأكثر.. أنا أشتاق لكل ما يمكن أن يكون عابرا وبسيطا وغير ملاحظ، أشتاق إلى كل ما كونني في هذا الوطن.. من كلمتين وبس، حتى حكايات أبلة فضيلة، وتلاوات الحصري، مرورا بصوت رأفت فهيم في همسة عتاب وهو يقول بسماجة فوت علينا بكرة يا سيد، ومن تشوف رشاقة خطوتك تعبدك وأنت لو بصيت لرجليك تقع وعجبي، حتى صوت المذيع الذي كان يقول بصوت رخيم: "قطوف من حدائق الإيمان"، مرورا بموسيقى تتر سينما الأطفال يوم الجمعة، ومن أغاني مسلسل الأيام وأبو العلا البشري حتى أغاني حميد الشاعري، مرورا بصوت محمد فؤاد وحنان ماضي وأغنية حلاوة شمسنا.
هل تقول إن المطاعم المختلفة التي استمتعت فيها، والأطباق الشهية التي تناولتها لا تنسيك طبق كسكسي ساخن من بائع جائل اعتاد أن يقف أمام مسجد النفق بامبابة يستقبل المصلين الخارجين بعد الفجر، يغريهم بالبخار الساخن الخارج من الصينية المرصعة بالزبيب؟
هل تقول إن المسارح ودور السينما والحفلات ومؤتمرات العالم، لم تبهجك كحفلة لفرقة هواة في ساقية الصاوي أو مسرح روابط؟
نعم، وأعترف أن ذلك يمكن أن يكون شديد السخف لكثيرين، وأنا كذلك أراه أحيانا، لكن ما باليد حيلة، نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول.. ووطني هو الحبيب الأول الذي كنت فيه طفلا يتسابق مع زملائه لالتقاط أعقاب الطباشير التي يلقيها المدرس في مدرسة القاهر الابتدائية، وهو الوطن الذي ارتجفت كل يوم فيه وأنا ألامس برودة الميكروفون المعدني لأقرأ الأخبار في إذاعته المدرسية،
وطني حيث نظارة أبي القديمة، ومصحفه المجلد والمكتوب على كعبه اسمه الثلاثي بماء الذهب، وحامل المصحف المصنوع من خشب الصندل..
وطني الذي أشتاق إليه هو أمي التي تعرف حبي للحم فتميزني عن أشقائي خفية بقطعة إضافية وتوصيني ألا أخبرهم، ها أنا أفضح سرنا القديم يا أمي..
وطني الذي أشتاق إليه هو أخي الأكبر حسن الذي كان يوقظنا ليلا وأنا صغير لأنه عاد من عمله المسائي بعلبة بولوبيف وبيض وجبنة رومي، فنتعشى بهجة لا جوعا.
أعرف تماما أن صورة الوطن الآن قد غامت في عيني وروحي، فقد تراكمت عليها صور عدة لقمامات شتى: الظلم والجهل.. الفقر والمرض، الاعتقال والتعذيب، أحمد موسى ومرتضى منصور، رجال الدين الغلاظ، الساسة الكاذبون، المعارضون والثوار المتكسبون بالقضية، الفساد والقهر، الغربة داخل الوطن..
كل هذا يشوش كثيرا على رؤيتي لوطني، لكنه لا يتجاوز ذلك أبدا ليشوش على مساحة افتقادي له،
يا كل زبالات وطني.. في النظام والسياسة والمعارضة والتلفزيونات والصحف والشوارع
ما رأيكم أن تسرقوا كل شيء وتَدَعوا لنا وطننا -ولو على الحديدة- لنستعيده من جديد؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.