لطالما شكَّلت كلمة انشقاق مع بروزها بداية الثورة حالة فرح شديد في أوساط الثورة السورية، وكانت تشكل لدى غالبية الثائرين حالة تآكل لجسم النظام ودعم لمشروعية الثورة وأحقيتها، وقد شهدت سنوات الثورة حالات انشقاق كثيرة، وبمختلف المستويات والشرائح، سواء العسكرية أو السياسية أو حتى الوظيفية (وإن كانت العسكرية هي الأكثر)، إلا أن حالات الانشقاق لم تحظَ بدراسة وتحليل جاد وحقيقي، ربما لتسارع وتيرة الثورة وظروفها والأحداث المتعاقبة فيها وعليها.
قد يحيل نمط كهذا من الطرح إلى فهم خاطئ لدى جمهور الثورة، وقد يعتبر ذلك نوعاً من التشكيك أو التخوين في وقت لا تحتمل الثورة فيه أي هزة من هذا النوع، وإن كنت أختلف كثيراً مع تفكير كهذا، وأجد فيه خطأ ارتكبناه، فأنا أرى اليوم أنه من الضروري قراءة وتحليل بعض الحالات، ولا سيما انشقاق أصحاب المراكز الهامة؛ لفهم سير الأحداث وما يراد لنا به، طبعاً وفق تصوري ورؤيتي لتلك الحالات، ويمكن توصيف الانشقاق إلى نوعين: صناعي وحقيقي، قديم وحديث.
فرفعت الأسد، شقيق حافظ، يعرفه كل السوريين ويعرف جرائمه في سوريا، وكيف كافأه النظام بنقل إمبراطوريته إلى فرنسا بكامل حقوقها مع المال والمرافقة والخدم والحشم، وظلت حصته من النفط وخيرات سوريا لا تنقطع عنه؛ ليبقى ابن العائلة الحاكمة جاهزاً كبديل تحت أي مسمى معارض أو موالٍ، وليطفو بقوة على السطح بداية الثورة كـ"منشق وعلى الطريقة الأسدية" لا يهم، المهم أنه من الأسرة المالكة، ولن يغرد خارج السرب يوماً.
وليس ببعيد انشقاق عبد الحليم خدام عام 2005، رجل السلطة الثاني ونائب الرئيس، والفك السفلي للنظام، الخادم الأمين وصديق الدرب للأسد الأب، ومحافظ القنيطرة في 67، حين باع معلمه الجولان، ومهندس صفقة النفايات النووية، وصاحب الأفعال الكثيرة التي ربما لا يتسع المجال لذكرها، والذي يعيش اليوم في منفاه الباريسي المتواضع مع ثروته المتواضعة بضعة مليارات من الدولارات كتعويض بدل خدمة، والذي تم انشقاقه بصفقة لتضييع مسؤولية مقتل الحريري، كما أشيع، وكي لا يبقى من هو أكبر وزناً من بشار من إرث حافظ القديم، و"أبو جمال" دون تكليف، كما تغازله بعض وسائل الإعلام، ليس لديه أي معلومات أو وثائق ذات أهمية عن النظام وعن تاريخه الطويل معه، والحافل بالجرائم، وهو اليوم يصنف نفسه معارضاً وكان مغلوباً على أمره حاله حال رفعت، والحالتان كانتا بالدائرة الأولى ولا وثائق ولا معلومات منهما عن النظام.
وبالانتقال إلى عهد الثورة السورية فقد حظي انشقاق مناف طلاس الهوليودي بسمة جديدة فريدة اعتمدت أسلوب التشويق والإثارة، كما أظهرته بعض وسائل الإعلام، مناف ابن مصطفى، أحد أركان النظام الأسدي ومثبتيه في السلطة، وشقيق فراس يد الخير البيضاء في الثورة، والذي ينفق من ماله ومال عائلته الذي جنوه بكدهم وتعبهم على الثورة!
ومناف ابن أبيه في القفز على الرتب، فهو الذي أصبح عميد ركن في سن مبكرة، وهو صديق الأسدين ماهر وبشار وذراعهما في ضبط غوطة دمشق بداية الثورة عبر وسيلتي السم والعسل، وهو الذي حظي انشقاقه بترحيب أوروبي منقطع النظير وصل إلى حد الضغط على أغلب وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة لحظر الحديث عنه أو تناوله، وهو ما قد يطال مقالي هذا، فالجنتلمان يتم تجهيزه لمرحلة مقبلة ضمن سياسة إعادة التدوير!
هؤلاء هم مطمورات للمستقبل، أو ألغام في درب الثورة، وليسوا الوحيدين، فالأمثلة كثيرة ممن أحب تسميتهم "أصحاب الأرجل الثلاث"، رِجل مع المعارضة، ورِجل مع الموالاة، ورِجل على الحياد، وبانتظار رمية الزهر الأخيرة الحاسمة لتحدد التموضع.
أما في سياق آخر من الثورة، فبعض الثوار والسياسيين تبهرهم الألقاب، كما هو الحال في انشقاق رياض حجاب رئيس حكومة الأسد، الذي دخل الحكومة في يونيو/حزيران 2012 بعد أن كانت غالبية المدن السورية تتوشح السواد على شهدائها في الثورة، ثم لينشق كرئيس وزراء بصفةٍ لها دلالاتها ووزنها، وهي التي ربما أوصلته بسرعة الصاروخ إلى سدة المعارضة مع دراما وتراجيديا قصة الهروب، كتلك التي نسجت مراراً عن وهم انشقاق وهروب فاروق الشرع، وحديثي هذا ليس تقييماً لهؤلاء أو غيرهم سلباً ولا إيجاباً، لكنه تسليط الضوء على زاوية قراءة مختلفة لحالاتهم.
وبعد.. هل الثورة تحتفظ بالألقاب وتكافئ عليها؟ وهل الانشقاق منّة ومكرمة من صاحبه على الثورة؟
وهل سنبقى ننتظر إعادة الثورة إلى حضن الوطن لكن بقالب جديد وسيناريو مختلف وعلى أيدي أصحاب الأرجل الثلاث المتواجدين في جسم الثورة ومؤسساتها، أم يجب إعادة الأمور إلى نصابها وإعادة تسليم راية الثورة إلى شباب الأرض أصحاب الثورة الحقيقيين وإشراكهم ودعمهم؟
في المنظومة الدينية هناك سقف وزمن للتوبة لا تقبل بعدها كما بيَّنه علماء الدين في كتبهم وتفاسيرهم، خلافاً لما عاشته ثورتنا وعانت منه، والتي لم تضع سقفاً لمن يأتي إليها، برغم كل الطعنات والألغام الموجودة فيها، فحتى اليوم يعتقد البعض أن أي انشقاق هو خدمة للثورة، وأنه يشكل رافعة إضافية لها، لا بل وما زال البعض يراهن على ذلك وكأني به ينتظر أن يعلن بشار الأسد انشقاقه عن النظام!
يجب إعادة قراءة وتحليل وتفكيك هذه الظاهرة ولكل حالة على حدة، خصوصاً من سُلم أمر الثورة أو أؤتمن عليها في كافة المراكز والمؤسسات، وعليه ألا تحتاج الثورة شهادة حسن سير وسلوك؟
يجب أن ندرك تماماً أن المنشق الحقيقي الملتزم بخيار الحرية ضد الديكتاتورية يمنح الثقة، هذا بدوره يفترض تقديم الأدلة العملية الصادقة لهذا الموقف، أما المنشق صاحب التاريخ السابق الموغل بالفساد والسوء لا يكفي معه مجرد الاصطفاف ظاهراً في صف المعارضة كي يكون صك براءة، خاصة إذا ترافق مع سلوك انتهازي واضح المنشق الذي يشك أصلاً بانشقاقه عن النظام المجرم، وهناك إشارات وربما أدلة على ارتباط ما يزال قائماً فهو مفضوح ومصيره لن يختلف بحال من الأحوال عن مصير النظام بعد هزيمته، سيدرك البعض ما ذهبت إليه في حديثي هذا مع كامل الاحترام والإجلال والتقدير لكل حر شريف صادق انشق عن النظام؛ ليقف مع الحق ضد الظلم، مع شعبه ضد القتل والتهجير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.