انتصار ثقافة الحوار في تونس

انقسم المجتمع السّياسي في تونس بعد حوادث الاغتيال قسمين: فريق مؤيّد للترويكا، وقسم معارض لها، وهو ما أسهم في تكريس الاستقطاب الثّنائي والصّراع الحادّ على السّلطة. وتنافس الفريقان في تحشيد الشارع، وتنازعا في مسائل خلافية شتى منها اتصل بصياغة الدستور، ومنها ما تعلّق بصلاحيات المجلس التأسيسي والموقف من روابط حماية الثورة. وزاد الخطاب الإعلامي التّحريضي الموغل في التعصّب والمروج لمنطق الإقصاء والتّخوين من تأجيج فتيل النزاع بين الفرقاء السياسيين.

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/23 الساعة 04:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/23 الساعة 04:01 بتوقيت غرينتش

يتبيّن المتابع للمسار الانتقالي في تونس أن البلاد مرّت على امتداد سنوات بمرحلة تاريخيّة دقيقة، تخللتها عدة تحدّيات وعدة أزمات، كادت تعصف بجهود إقامة الدّولة الدّيمقراطيّة الوليدة، وتقوّض العمل التّأسيسي لدولة ما بعد الثّورة، فتزايد وتيرة العنف، وغلاء المعيشة، واحتدام الصّراع على السّلطة، وصعود العصبيّات الجهويّة والأيديولوجيّة والدّينية من حين إلى الآخر، وعودة أعلام النّظام القديم، وبروز نُذُر الثّورة المضادّة، وتراجع ترتيب تونس السّيادي، كلّ ذلك أخبر الملاحظَ بأنّ الرّبيع العربيّ مهدّد في مهده الأوّل، وأورث ذلك في نفس المواطن إحساسا بالخوف وشوقا إلى الطّمأنينة والاستقرار.

وقد بلغ التوتر أوجهاً بتنامي ظاهرة العنف السياسي في تونس فترة حكم الترويكا (حركة النهضة، حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، التكتل من أجل العمل والحريات)، واشتد الصراع بين السلطة الحاكمة والمعارضة إثر مقتل المعارض اليساري شكري بلعيد زعيم تيّار الوطنيّين الدّيمقراطيّين (6 فبراير/شباط 2013) وبعد مصرع محمّد براهمي (25 يوليو/تموز 2013) أحد نوّاب المجلس التّأسيسي وزعيم التيّار الشّعبي، وإثر قتل عدد من الجنود التونسيين في جبال الشعانبي. ومثّل شيوع الاغتيال حدثا صادما لعموم التونسيّين، وخلّف استياءً واسعا عندهم وذلك لانتقال الصّراع السّياسي من حيّز السّجال إلى حيّز تصفية الخصم على خلفيّة هويّته السياسيّة. وقد بادر بعض أعلام المعارضة بعد سويعات معدودة من حدوث عمليّة الاغتيال الأولى والثّانية إلى توجيه الاتّهام إلى حركة النّهضة وذلك قبل أن يُدلي التّحقيق بنتائجه النهائيّة في الجريمتين. وزاد ذلك الاتّهام القبلي المضاعف في توتير الوضع السّياسي وزرع بذور الفتنة وهدّد بانزلاق البلاد في مهواة الحرب الأهليّة.

وانقسم المجتمع السّياسي في تونس بعد حوادث الاغتيال قسمين: فريق مؤيّد للترويكا، وقسم معارض لها، وهو ما أسهم في تكريس الاستقطاب الثّنائي والصّراع الحادّ على السّلطة. وتنافس الفريقان في تحشيد الشارع، وتنازعا في مسائل خلافية شتى منها اتصل بصياغة الدستور، ومنها ما تعلّق بصلاحيات المجلس التأسيسي والموقف من روابط حماية الثورة. وزاد الخطاب الإعلامي التّحريضي الموغل في التعصّب والمروج لمنطق الإقصاء والتّخوين من تأجيج فتيل النزاع بين الفرقاء السياسيين.

وكان لما شهدته مصر من حراك احتجاجي شعبيّ في 30 يونيو/حزيران 2013 أدّى إلى إزاحة أوّل رئيس مصري منتخب عن السّلطة، وصعود العسكر إلى الحكم (3 يوليو/ تمّوز 2013) الأثر البيّن في المشهد السّياسي التّونسي الذي عرف حالة من الانقسام الشّديد إزاء متغيّرات الوضع المصري فذهب عدد من السياسيّين إلى تأييد التحوّل المشهود في مصر، معتبرين ما حصل تصحيحا لمسار الثّورة، وإيذانا بنهاية الإسلاميّين وفشلهم في إدارة المرحلة الانتقاليّة. وبالمقابل تفاعل آخرون بطريقة مخالفة مع مستجدّات المشهد السياسي المصري معتبرين الإطاحة بحكم الإسلاميّين عملا انقلابيّا بامتياز أدّى إلى سفك الدّماء وقمع الحرّيات العامّة والخاصّة، وإقصاء الآخر، وتقسيم للمجتمع، وإذكاء أسباب الاستقطاب الثّنائي بين داعين لحكم الجيش ومعارضين له.

وأمام انسداد الأفق السياسي أمسك الرباعي المدني النقابي، أعني الاتّحاد العامّ التونسي للشّغل والاتّحاد العامّ التونسي للصّناعة والتّجارة وعمادة المحامين والرّابطة التونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان بزمام المبادرة، وعمد إلى تجميع الفاعلين السياسيّين حول طاولة تفاوض واحدة، وانخرط الرّباعي في إدارة حوار عسير بين واحد وعشرين حزبا في البلاد.

ونصّت خارطة الطّريق التي اقترحها الرّباعي الرّاعي للحوار الوطنيّ يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2013 والتي تمّ التّوقيع عليها من الأطراف السياسيّة المشاركة في الحوار يوم 05 أكتوبر/تشرين الأول 2013 على استكمال أعمال المجلس الوطني التأسيسي، واختيار أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وإصدار القانون الانتخابي، والتصديق على الدستور في أجل أقصاه أربعة أسابيع، وعلى تقديم حكومة الترويكا بزعامة علي العريض استقالتها، وتشكيل حكومة جديدة ترأسها شخصية وطنية مستقلة.

وبعد زهاء شهرين ونصف من انطلاق الحوار الوطنيّ وما اعتراه من جدل، وتجاذبات سياسيّة أعلنت المركزيّة النقابيّة بزعامة حسين العبّاسي يوم السّبت 14 ديسمبر/كانون الأوّل 2013 عن اتّفاق الرّباعي الرّاعي للحوار وعدد من الأحزاب السياسيّة (9 أحزاب من مجموع 18 حزبا حضرت الاجتماع) على اختيار مهدي جمعة (51 سنة) رئيسا لحكومة التكنوقراط الانتقاليّة.

وساهمت مبادرة الحوار الوطني التي أعلنها الاتّحاد التّونسي للشّغل بمعيّة عدد من المنظّمات النقابيّة والعماليّة والحقوقيّة الفاعلة داخل الاجتماع التّونسي في حلحلة المشهد السّياسيّ وإذابة الجليد بين الفرقاء السياسيّين. وتمّ التحوّل بمقتضى الحوار من واقع الشرعيّة الانتخابيّة إلى واقع الشرعيّة التوافقيّة الموسّعة وتنازلت حركة النهضة عن السلطة رغم أنها الحزب الأغلبي في المجلس التأسيسي.

والواقع أنّ اتّحاد الشّغل قد أقدم في ذلك الظّرف العصيب من تاريخ البلاد على الإمساك بزمام المبادرة السياسيّة متجاوزا دوره النّقابي/ الاجتماعي ليضطلع بدور توفيقيّ بين الأطراف المتنازعة على السّلطة. وكان المراد تجميع الطّيف السّياسي ونزع فتيل الاحتقان الاجتماعي والدّفع إلى الوفاق من ناحية، وإعادة الاعتبار للاتّحاد من ناحية أخرى بعد ما لحقه من شبهات حول دوره في مهادنة نظام بن علي خلال العشريّتين الأوليين من حكمه، وبدا الرّباعي الرّاعي للحوار ميّالا إلى تكريس التوافق بدل التّنافي، وتحكيم التّشاور بدل التّنافر بين مكوّنات المجتمع المدني والأحزاب السياسيّة، وهو ما ساهم في إرساخ تجربة الاجتماع الدّيمقراطي حول السّلطة.

ولم يكن لتجربة الحوار الوطني أن تنجح لو لم تجد لها حاضنة اجتماعية، سياسية وعسكرية، فعلى الصعيد الاجتماعي كان لقوى المجتمع المدنيّ من جمعيّات حقوقيّة ونقابيّة وأحزاب سياسيّة ونخب مثقّفة الدّور الفاعل في إسناد مشروع الحوار الوطني، وعلى الصعيد السياسي كان لإقدام حركة النّهضة ذات المرجعيّة الإسلاميّة على التّنازل عن الحكم بطريقة سلسة، وذلك رغم ما تحظى به من حضور مهمّ في المجلس التّأسيسي، وقبولها بتسليم السّلطة إلى حكومة كفاءات الدور المهم في إنجاح الحوار. وقد دشّنت الحركة بذلك سابقة في تاريخ الإسلام السّياسي، وبرزت في موقع أوّل حزب تونسيّ يكرّس مبدأ التّداول على السّلطة، ويقبل بالشرعيّة الوفاقيّة بديلا عن الشرعيّة الانتخابيّة.

أما على الصعيد العسكري فقد حافظت المؤسّسة العسكريّة على الحياد إزاء الفرقاء السياسيّين ، وهو ما ساهم في استبعاد فكرة الانقلاب على الشرعيّة القائمة وسمح بانتقال سلس للسّلطة، وشكّل ضمانة أساسيّة لمشروع التحوّل السلميّ نحو بناء الدّولة الدّيمقراطيّة المأمولة والجمهوريّة الثانية المنشودة، وظهر جليّا من خلال تجربة الحوار الوطني أنّ إدارة تونس في المرحلة الانتقاليّة لا تلين بتحكيم منطق تسويد الأغلبيّة على الأقلّية، بل تكون بتحكيم التّوافق تأسيسا لشكل من أشكال الدّيمقراطيّة التشاركيّة/التشاوريّة البنّاءة.

وبناء عليه فإنّ تتويج تونس بجائزة نوبل للسلام لم يكن أمرا اعتباطيا بل كان فعلا رمزيا دالاّ على قدرة التونسيين على تجاوز خلافاتهم وحلّ أزماتهم بالاحتكام إلى منطق الحوار لا إلى منطق القوة وفوهات البنادق. فهل يتم تعميم آلية الحوار لحل الأزمات العالقة فيما يسمّى بدول الربيع العربي؟
هذا سؤال آخر هو مشروع نص آخر…

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد