نحن ثوار ولن نرضى بغير تلك التسمية.. لقد ثُرنا على الدونية والمادية التي أراد البعض أن يغمسنا ويغرقنا بها، استيقظت فينا الحياة، اتضحت الرؤية واتضح الهدف، ولا يمكن لشيء أن يقف أمام تحقيقنا لتلك الأهداف..
قد يكون سبب اشتعال الثورات عائدا للظلم الذي بلغ منتهاه، وقد يكون سببها "مؤامرات" كما يدّعي البعض، ولكن ما الأهمية في ذلك؟ ليس المهم "كيف؟" و"لماذا؟" ولكن المهم أن الكُمُون كان موجوداً وإلا لما استطاع أحد في هذا العالم أن يجعل هذه الشعوب تقبل بكل هذه التضحيات التي تقدمها، هذه التضحيات الناجمة عن الإيمان بالقيم العليا، هذا الإيمان الذي يُخرج الناس من فردانيتهم وذواتهم ويحملهم على احتمال كل تلك الآلام في سبيل تحقيقها.
بعد الثورات اختلفت الموازين، تزلزلت المسلمات، اجتاح الشك كل المفاهيم، اختلفت الاهتمامات والتطلعات فمن مادية بحتة إلى روحانية خالصة..
لقد خُلقنا لغايات كبرى "قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" (البقرة-30)
فليقارن أي إنسان همومه وغاياته قبل الثورات وبعدها، فمن أمور مادية بحتة: الوظيفة، الراتب، المركبة.. إلى قيم عليا: حرية، كرامة، حلم بالشهادة، جهاد بالنفس والمال والجهد والوقت..
لقد خلق الله الإنسان ونفخ فيه من روحه، كرّمه وجعله خليفته في الأرض، ولا يمكن أن تُنال هذه المرتبة إلا إن كان تفكيره وعمله على هذا المستوى. غايات الإنسان الكبرى ومهماته من نشر السلم والعدل وعمارة هذا الكون تحتاج دفع ثمنٍ باهظ لتصبح حقيقة، يتعرض الإنسان في طريقه لتحقيقها إلى الانتكاسات والإخفاقات، لكن إيمانه الشديد بها هو ما يرفعه مرة بعد مرة، وهذا لا يتحقق إلا بالمجاهدة والتطلع إلى المعالي، بهذا فقط يمكن أن ينال هذه المرتبة..
نعم، حجم الآلام والتضحيات هائل، حتى يكاد الإنسان يشعر أنه سيفقد عقله بسببها! ولكن واقع الأمر أن رقعة الألم والإحساس به قد توسعت ليتشارك بها المجتمع أجمع. ليس الأمر أن التضحية زادت فقط وإنما أننا أصبحنا نتشارك بالتضحية.. نتشارك بالآلام والمشاعر وكأننا عائلة واحدة كبيرة.
بماذا تختلف آلام عائلة "واحدة" فقدت ابنها قبل الثورات بغير ذنب -إلا تسلط أصحاب النفوذ- عن شعور "مجموعة" من العوائل يتعرضون لنفس الشعور الآن؟ فَمِن أم تفقد ابنها بدون ذنب يُذكر، وبدون أحد يسأل، وبدون مجتمع يتأثر، أصبحنا الآن "جميعا" تجمعنا الآلام.. نشعر ببعضنا ونتألم لألم بعضنا أصبحنا "مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". الإنسانية واحدة لا تتجزأ، وانعدامها أو وجودها لا يتعلق "بالكمية" عدد الحالات أو تكرارها ، بل يتعلق بالحالة نفسها "النوعية".
انتصرنا لإنسانيتنا.. وانتصرنا على ماديتنا ولذلك يحاربنا العالم أجمع، العالم المادي، الذي يرفض أن يشعر بدونيته أمام تطلعاتنا الكبرى، لن يقف أحد معنا، فالغرب بماديته البحتة لن يقبل أن يكتب التاريخ أن شعباً أسطورياً قُتل وعُذب وشُرد.. دفاعاً عن أفكاره ومبادئه العليا، هذا يمثل تحطيما للمبادئ المادية والبراغماتية المغروسة في عقولهم.. هذه أسطورة حقيقية متجسدة في شعب في القرن الحادي وعشرين، أي في زمن ولت فيه الأساطير ولا مكان فيه للمعجزات! هذا زمن الأرقام والمبادئ الحسابية، هذا زمنٌ كل خطوة فيه محسوبة، لا مجال للنشوز عن القواعد المادية التي يجب أن تكون ملزمة لكل البشر!
سيحاربنا العالم المادي والقوى التي تأتمر بأمره، فمعظم النظريات الموجودة في أدبياته تدّعي أننا قوم نستحق -بل خلقنا- لنكون تحت سلطة أنظمة ديكتاتورية، خٌلقنا لكي نُساس كالبهائم، شعوب خانعة ضعيفة "تحب" الاستبداد.. فكيف يتقبل الآن تحطيم هذه النظريات التي بناها وحاول تكريسها كل هذه السنين؟
سيستخدمون كل الأسلحة المادية وغيرها من اجتماعية ودينية واقتصادية، وسيتنافسون ويتحالفون كما لم يفعلوا من قبل "فقط" بغاية إطفاء الشعلة. لقد احتلونا بالقوة واحتلوا شعوبهم باستخدام معداتهم وآلاتهم الإعلامية ليتم إفراغ الناس من المعاني والأفكار العليا وليصبحوا مجرد كائنات استهلاكية خاوية من القيم والمبادئ الأساسية.
لن يتقبلوا ان تنتصر الثورة.. لن يتقبلوا أن تنتصر المبادئ، فهذا يعتبر عبثاً وكسراً للصور النمطية التي شكلوها عنا، سيعملون بكامل قواهم ليشوهوا صورة الثورة، سيدّعون أنها صراع على الحكم، صراع على السلطة.. على المكاسب المادية.. أي شيء يتماشى مع مفاهيمهم المادية لهذه الحياة، فكيفية كتابة التاريخ وكيفية نقل الصورة لشعوبهم -المحتلة بوسائل إعلامهم المسيسة- أهم لديهم آلاف المرات من حقيقة ما يجري ومن الدماء التي تُسفك.
لقد كبرت همومنا كماً ونوعاً ولكن من يضع المجد أمام عينيه سيهون عليه كل ثمن يدفعه في سبيل تحقيقه، فحلمنا واضح، وطريقنا لتحقيقه واضح، نعرف إلى أين نريد أن نصل وكيف سنصل، فمن أراد أن يرتقي للمعالي فليلحق بنا..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.