نقتسم سُلطته معاً

فانتبه وتذكر أن كلام الناس لن يقف فهو كالموج، وبقاءه لن يطول، فهو كالزبد، وذاكرته ضعيفة فهو كالبحر، حين تصغي إليه فكأنما تحاول أن تسبح عكس التيار لتصل إلى بر رضاهم وما أنت ببالغه، فما عليك إلا أن تتجاهله وتجعله يضرب قدميك وأنت مسترخٍ على رمل الشاطئ، تنظر إلى السماء وتسمع هدير البحر الذي لن يسكن حتى ترجع إلى بيتك حيث أهلك، حيث أمك، حيث زوجك، حيث سكنك وجنتك التي لا تترك مجالاً لأحد أن يدنسها.

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/09 الساعة 03:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/09 الساعة 03:27 بتوقيت غرينتش

أي قارب يقوده شخصان لن يصل إلى وجهته، وأي سلطة يتنازعها اثنان فتلك شرارة الفوضى، والله -عز وجل- يقول في كتابه: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا). كم من المربك لقائد السيارة أن ينبهه الراكب لكل شيء هو يراه ويعرفه؟! بل كم من المزعج لدرجة أن البعض قد تراوده خيالات لركله خارج السيارة وهي تسير بأقصى سرعة! تخيل مثلاً أن يقرأ أحدهم المقال معك بصوت عالٍ، أو يتلو عليك أرقاماً عشوائية بينما تقوم بعد النقود، أو حتى يحاول عد النقود معك بل وربما تصويب عدك!

البعض يعيش من أجل الناس وكلام الناس ورأي الناس، بل ويصب جل تركيزه وماله ووقته من أجل كلمة استحسان تجاه بيته، ملابسه، ساعته، وحتى تجاه والديه، وزوجته. وهذا مرض وهوس أصاب كثيراً من الناس، فغلبت المظاهر على الجواهر، وأخفيت العيوب وسدت الثقوب والثوب من الداخل بالٍ ممزق.

وما ساعد على ذلك تصوير الإعلام بأن كثرة المقتنيات التي يمكن أن تتباهى بها هي مفاتيح السعادة الأزلية، ولكن حاول أن تتذكر فرحتك بهذا الهاتف الذي تقرأ المقال من خلاله! أو حتى حاسوبك، هل ما زلت سعيداً به أم أنك أصلًا نسيت أنك تحمله؟ من المستحيل أن يتفق البشر على استحسان شيء واحد وإن كانوا من بلد واحد، من مدينة واحدة، أو حتى بيت واحد، فلماذا أنت مُصر على التلويح بما تحمل وتملك في كل مكان وزمان لتصغي لكلمات الثناء المصطنعة والمتكلفة؟

متى تدخل الجامعة؟ متى تتخرج؟ متى تتوظف؟ متى تتزوج؟ متى ستأتي بذرية؟ متى متى متى… كل الأحاديث في المجالس أو الزيارات لا تخرج عن إطار كلمة متى، وكأننا أقوام لا نعيش إلا في المستقبل، بينما واقع أمرنا أننا لم نعش إلا في الماضي وما زلنا -ما عدا هنا- فعلى ما هذه الثرثرة المزعجة، لا يكاد يصدق الفرد أنه قد طوى صفحة متى السابقة، حتى تُفتح في وجهه متى جديدة مبنية على المتى التي سبقتها، صدقني لن يملأ عينهم أو سمعهم إلا موتك الذي لو لا الخجل لسألوك متى تموت؛ لترتاح ويرتاحوا من هَم هذا السؤال الذي يتوارثونه أصلاً من حمض أسلافهم النووي.

اقترب قليلاً دعني أهمس لك شيئاً مهماً بهذا الصدد: صدقني لا أحد منهم يبالي، بل هم يحسدونك على ما أنت عليه وإن كنت أقل منهم حظاً في أي من تلك (المتايات) المتتاليات، فلو جاءت متى الزواج، أعابوا زوجك، وسخروا من حفلك، وحسدوا حظك إن لم يجدوا ما يعيبونه. وإن تورطت في زيجة، كانوا أول من سخروا منك، وفي ظهرك قالوا: "استعجل فهو لم يكن مستعداً"، فلماذا تقحمهم في محفظتك، وغرفة نومك، وكتبك الجامعية، وفوق حلوى أطفالك وحتى تحت وسادة أحلامك؟

وما هو أسوأ من هذا أن تتيح لهم المجال بأن يتدخلوا في خصوصياتك أكثر، أن يخبروك كيف تعامل أختك، كيف تحادث زوجك، كيف تنفق مالك، كيف تربي أبناءك والقائمة تطول. البشر لا يجيدون شيئاً أكثر من الثرثرة، فما أسهل الكلام، وما أصعب الفعل!. يقولون لك بأفواههم ما ليس في قلوبهم "لا تجعل لزوجتك كلمة وكن أنت الآمر الناهي"، نسوا أن الزواج شراكة، "راقبي زوجك كي لا يخونك، اسأليه أين مضى ومن أين أتى"، تجاهلوا أن الثقة بيت الراحة والطمأنينة، "تنظيف البيت وتربية الأبناء من أعمال الزوجة وإياك أن تعودها على مساعدتك إياها"، كلهن يردن أزواجاً يقفون معهن، ولكن لأنهن لم يحظين بذلك، أردن حرمان الأخريات منه.

"اطلبي منه مهراً كبيراً، فهذه الفرصة لن تتكرر" ويقعن في هذا الفخ كثر، فينسين أن الزواج عمر، وأن المال ستر، وأن ما صرف بالأمس ربما لا يعود في الغد. وأحاديث جانبية كثيرة تهدم البيوت، وتُهلك الوجود، ويتحسر عليها صاحب الشأن ويتمنى لو أن الأمس يعود. كيف تحيا أنت وزوجتك، ماذا يجب أن ترتدي هي وكيف يجب أن تبدو، كيف تتفقان وعلى ماذا وكيف تنفقان، لا تشاورها ولا تأخذ مشورتها، سيطر عليها، عنفها، عاقبها، أدبها، ألفاظ تشعرك أنك في معتقل، تتعامل مع مجرم، أو قاصر أو كأنهم يتحدثون عن فتاة لم يؤدبها أبواها، وكنت أنت صاحب وزارة التربية والتعليم فرع عش الزوجية، وبالمقابل نصيب آخر تصغي إليه الفتاة، أدّبيه، دعي كلمتك العليا، دعيه يشتري لك كل ما تشتهين وإن لم يكن يملك مالاً، وأنجبي له فريق كرة قدم حتى يتورط ولا يستطيع أن يفكر في أخرى.

قائمة وساوس شياطين الإنس كثيرة لا داعي لسردها كلها، لذا باختصار، أنتَ والآخر كيان واحد، فلا تقتسم سلطتك مع الآخرين، وكن أنت والآخر حاكم نفسك.

قبل أن أغادر، أود أن أهمس لك بالتالي: لا تخرج مشكلتك فيصغي لها ثالث تظنه الحكم العدل، فلا هو منصفك، ولا هو يفهمه ويفهمك، ولا هو غدا ساترك، فتكبر المشكلة، ويعظم الخطب، ولا أحد متضرر إلا أنت ومن معك أو حولك. إن كان من باب الفضفضة فهذا شأن آخر، لكن لا تقتسم سلطة أي شيء مع الآخرين، سلطة قراراتك، سلطة تربيتك، سلطة زواجك ووظيفتك، سلطة نفسك، لا تسلمها لأحد، فلا أحد يحفظ الأمانة، ولا أحد يبالي بك، فالكل مشغول في نفسه وأهله، ولكن البعض حين لا يجد ما يسعده، يبحث عمّا يتعس الآخرين، فينالك بحديث أو بغمزة أو بمتى أو بنصيحة لا يريد منها خيراً لك.

فانتبه وتذكر أن كلام الناس لن يقف فهو كالموج، وبقاءه لن يطول، فهو كالزبد، وذاكرته ضعيفة فهو كالبحر، حين تصغي إليه فكأنما تحاول أن تسبح عكس التيار لتصل إلى بر رضاهم وما أنت ببالغه، فما عليك إلا أن تتجاهله وتجعله يضرب قدميك وأنت مسترخٍ على رمل الشاطئ، تنظر إلى السماء وتسمع هدير البحر الذي لن يسكن حتى ترجع إلى بيتك حيث أهلك، حيث أمك، حيث زوجك، حيث سكنك وجنتك التي لا تترك مجالاً لأحد أن يدنسها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد