ذات ليلة ربيعية، بعدما استقرت النجوم في السماء وعلى شواطئ مدينة زوارة غرب العاصمة الليبية طرابلس. حيث بكاء الأطفال وصوت ترنح الأشجار. سرنا على الأقدام وكنا نساءً ورجالاً وأطفالاً. نلهث نحو مصير مجهول، وقدر غير معلوم.
اقتادنا المهربون إلى قارب خشبي متهالك. قاربٌ تعفن من أمواج البحار، تُحركه الأمواج يميناً ويساراً فيصدر منه صوت اهتزاز الخشب القديم.
في ظلمة الليل لا نرى سوى دموع الرجال التي باتت تلمع ببريق النجوم في السماء وكنا نتبادل نظرات الأسى فيما بيننا. دون حقائب سفر كالمعتاد، لا مكان للجلوس والاسترخاء في تلك الرحلة. أكثر من سبعمائة شخص تراصفنا كحجارة رصيف في شارع ضيق. لا قرار في العودة فالسلاح موجه علينا وعيون المهربين كشرارة تنتظر فتيل لتشعله.
سرنا.. وقلبي يلهف على أخي الصغير الذي جلبته معي، أنظرُ بمن حولي وأفكر قليلاً فتخف دقات قلبي. أمٌ تجلس بجانبي ويداها على طفليها اللذين لم يتجاوزا السابعة من عمرهما وتمسكهما بحذر، مطأطأة الرأس وأنين أطفالها في أذني.
ساعات مضت حتى أشرق الصباح، دخان المحرك أحجب ضوء الشمس. حاولتُ تغيير جلستي فلم أستطع، على قدمي ينام شيخ عجوز وبجانبه شاب يتقيأ، ويميل بنا القارب يميناً ويساراً، رفعت رأسي لعلِّي أرى اليابسة، فكان البحر يلتف حولنا ولم أرَ سوى أمواجاً تعلو بجانبنا. بات الماء يدخل من أسفل القارب من بين ألواح الخشب المهترئة، أصبح الصراخ عالياً بينما أنا أترقب وأنظر إلى أخي الصغير ذي الخمسة عشر عاماً، وجهه مُصفر وعيناه هزيلتان من التعب. كلمته فأجاب بصوت منخفض. بِتُّ أسرح بخيالي في مصيرنا المجهول وألوم نفسي على ما قمت به. كدنا نغرق، توقف المحرك بعد نفاذ الوقود وهدئ الصوت الذي كان يرافقنا. بقي صوت أزيز الخشب مع تمايل القارب كلحنٍ على آلةِ الربابة.
أيقنت أن الموت مصيرنا، فخلعت عن جسدي المبتل سترة النجاة التي باتت في خاطري لا تجدي بالغرض. واحتضنت أخي، قدماي باتتا لا تقدران على الحركة بعدما مرت ساعات على جلوسي بنفس الوضعية.
وإذ بصوتِ طائرةٍ تجوب السماء فتسارعت أنظارنا جمعيا نحوها. كان ذلك قرابة الثانية بعد منتصف النهار، صراخ ونداء من الجميع "أنقذونا" فحامت فوقنا وباتت تصورنا وعادت من حيث أتت.
ساعة مرت، فجأة! صرخ شاب من أعلى القارب "بارجة تتقدم نحونا". نظرت إلى الأمام وإذ ببارجةٍ حربيةٍ تظهر من بعيد. تفاءلت بالحياة من جديد، فقبلت أخي وأيقظته بعدما أنهكه التعب.
التفتت البارجة حولنا عدة مرات، وإذ بنداء باللغة الإنكليزية بمكبر الصوت "لا تقفزوا! سنعمل على إنقاذكم، ابقوا في أماكنكم. مرت ساعات وهم يقومون بعملية الإجلاء حتى استغاثوا بباخرة تقل الغاز لتخفف عنهم. فأعدادنا كانت كثيرة وغير متوقعة بالنسبة لهم، فقسمونا إلى قسمين وتم تفتيشنا وركبنا البارجة.
هنا أحسست بألامان وعاد إلي الأمل بالحياة من جديد. أحضروا لنا الطعام، فقد جفت أجسامنا على القارب وأُفرغت بطوننا من الأقياء، فلا طعام ولا ماء طوال الساعات الماضية.
كان الجو باردا وأجسامنا ما زالت مبتله، فتمددت على أرضية البارجة بعدما مرت ساعات على ترتيبنا وإحصاء أعدادنا. جاءوا لنا بأكياس سوداء اللون لنجعل منها غطاء لأجسامنا المبتلة، فلففت جسدي بها من شدة البرد.
بتنا ليلتين متتاليتين على متن البارجة فتكسر جسدي من قساوة أرضيتها التي صُنعت من مادة الأسفلت الأسود القاسي. لم أتمكن من النوم طوال ثلاثة أيام، إرهاق وتعب لم أحس به من شدة الفرح للوصول إلى عالم الأحلام الذي صُور لنا.
وصلنا أخيراً إلى أيطاليا، ومنها سلكت طريقي إلى السويد مروراً بالنمسا وألمانيا والدنمارك لتحط بي الرحال في مدينة مالمو السويدية وهنا بدأت حياتي من جديد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.