سورية: مفاهيم مقلوبة

ليس هناك مجنون في العالم يمنع رجالات نظام من الانشقاق عنه والالتحاق بثورة الشعب عليه، لكن بالمقابل ليس هناك عاقل في العالم يسمح لمنشق عن النظام أن يتولى منصب قيادي في المعارضة التي تواجهه، وأقل البشر ذكاءً يفكرون بأن النظام (وخاصة في نظام كالسوري) يحتفظ بملفات ضغط ومساومة لمن عمل معه سواء كانت ملفات فساد مالي أو أخلاقي، يستخدمها عند الحاجة إليها، وهذا أبسط الأسباب التي تدفع دوماً إلى تحييد المنشقين وإبعادهم عن مراكز القرار في أية ثورة في العالم، إلاّ إذا كان المقصود بها استبدال وجوه بأخرى، وتبديل مستخدمين، وليس تغيير النظام.

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/21 الساعة 03:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/21 الساعة 03:01 بتوقيت غرينتش

لو قيّض لمشاهد ما قادم من الفضاء، أو كان نائماً في غيبوبة خلال الخمس سنوات الماضية، أو سواهم ممن كانوا مقطوعين عن العالم ولم يعرفوا بما حدث في سورية منذ مارس 2011، أن يشاهدوا جلسة مجلس الأمن التي عقدت الجمعة الماضي بخصوص سورية، وسئلوا عما فهموه من كلمات وزراء خارجية الدول الأعضاء في مجلس الأمن التي ألقوها خلال الجلسة، حول ما حدث في سورية خلال الخمس سنوات التي كانوا فيها مقطوعين عن الأخبار، لما استطاعوا إيجاز ما حدث بأكثر من أن "تنظيمي داعش والنصرة الإرهابيين"، ارتكبوا جرائم حرب وقتلوا عشرات آلاف الأبرياء وهجروا ملايين السوريين، ولن يخطر لأي منهم ذكر اسم بشار الأسد، أو إلقاء أي لوم أو مسؤولية على عاتقه في كل ما ارتكب من جرائم في سورية منذ خمس سنوات وحتى اليوم.

ما حدث في جلسة مجلس الأمن لم يكن جريمة التزوير الوحيدة التي لفقت لقلب الحقائق وخلط الأحداث واستبدال الوقائع في الثورة السورية، والتي تنقلت فيها الدول بخفة لاعب سيرك ماهر من فقدان بشار الأسد شرعيته كرئيس وكنظام، وأن عليه أن يرحل، إلى فكرة أنه لا يوجد حل عسكري ولذلك من الطبيعي الجلوس مع النظام على طاولة حل سياسي يتم الحفاظ من خلاله على مؤسسات الدولة، على أن لا تشمل مؤسستي الجيش والأمن المتورطتين بقتل السوريين، وترحلان مع النظام ورئيسه، ثم فيما بعد تم خفض السقف والقبول ببقاء مؤسستي الجيش والأمن مع إعادة هيكلتهما، والإبقاء على العناصر والشخصيات التي لم تتلوث أيديها بالدم (هل يوجد مثل هذه العناصر التي لم تتلوث أيديها بالدماء فعلاَ!؟!) واستثناء بشار الأسد وعائلته وقادة حربه من أية تسوية أو معادلة مستقبلية، لتصل في ما بعد إلى القبول ببقاء بشار الأسد لفترة انتقالية يتم تقاسم السلطة فيها بين النظام والمعارضة، خاصة وأن هدف كل هذه الدول تحوّل إلى محاربة تنظيم الدولة وجبهة النصرة، وغيرها من التنظيمات الإسلامية التي يصنفها الغرب إرهابية ومتطرفة، ومع مرور الوقت ربما سينسى الغرب ومعه عربه فكرة الخصومة مع بشار الأسد (إن كانت موجودة أساساً، وإن لم يكن قد نسيها فعلاَ اليوم!!) ويستعين به لحرب من يعتبرهم إرهابيين ومتطرفين، ولن يجد أفضل منه بحسب التجربة السابقة مع نظامه في أداء دور كلب الحراسة لأمن الغرب، مادام هذا الغرب سيحافظ على النظام، وتصريحات الفرنسيين والانكليز بهذا الخصوص التي تم نفيها أو توضيحها لم تكن أكثر من بوالين اختبار لخطط معدة وموافق عليها سلفاً.

لم يكن الغرب ليقدم هذه التنازلات حيال الإبقاء على بشار الأسد لولا التنازلات والمقايضات التي قامت بها المعارضة السورية مؤسسات وشخصيات على مدى سنوات الثورة، فعندما يقرر سفراء دول ومدراء مخابرات ووزراء خارجية الشخصيات المناسبة لتمثيل الثورة سياسياً، ويفرضون على مؤسساتها برامجهم وآراءهم ورؤاهم، ويتحولون إلى الآمر الناهي فيها، لا يتخذ قرار بدون استشارتهم، ولا يأتي رئيس مجلس وطني أو ائتلاف أو أية هيئة أخرى إلاّ بقرار إقليمي وموافقة دولية، وعندما يتخلى المعارضون السوريون الذين واجهوا النظام خلال حكم الأسدين الأب والابن قبل الثورة إلى مجرد سماسرة بيع وشراء وواجهات لدول ومخابرات ورجال أعمال، وباحثين عن حصص وغنائم صغيرة، فينشئ ميشيل كيلو اتحاد الديمقراطيين بمن حضر ومن استطاع لمّه تنفيذاً لطلب اقليمي، ليواجه تغوّل الإخوان المسلمين في مؤسسات الثورة في بداياتها وشرههم للاستئثار بالحصة الأكبر من مناصبها، ويؤسس حازم نهار لنفس السبب المنبر الديمقراطي وتنفيذاَ لإرادة جهة مختلفة (قبل أن يسرقه منه سمير عيطة وفايز سارة وميشيل كيلو!!)، ثم حزب الجمهورية الذي يخبئه تحت البلاطة بانتظار مرحلة تقاسم الحصص، ويقبل الدكتور برهان غليون بأن يفرض وزير خارجية دولة ممولة التمديد له فترة رئاسية في المجلس الوطني ضاربة بقانونه عرض الحائط، ويفرط رياض سيف المجلس الوطني لصالح تأسيس الائتلاف بالاتفاق مع سفراء الدول الكبرى لأنه لم يحصل على المنصب الذي يريده، ويسافر كمال اللبواني إلى إسرائيل الدولة المعادية لسورية والتي لا تزال تحتل جزءاً من الأرض السورية بحثاً عن دور، بحجة أن بيدها الحل وأنها صاحبة القرار في الموضوع السوري، ويقبل جورج صبرا برئاسة هيكل عظمي لجسم ميت كان اسمه المجلس الوطني فقط ليحتفظ بمسمى الرئيس فقط، حينها يكون من الطبيعي أن تتسلم أربعة أسماء ليست لها علاقة حقيقية بالمعارضة أو الثورة، وكانت أقرب للنظام منها للثورة رئاسة ائتلاف المعارضة، ابتداءً من معاذ الخطيب ومروراً بأحمد الجربا وهادي البحرة وخالد خوجة، ما دامت شخصيات المعارضة من الاخوان المسلمين إلى اليسار والقوميين والليبراليين قد قبضت ثمن موافقتها، وحينها يكون من الطبيعي أن يصبح فراس طلاس أحد أكبر فلول النظام وفاسديه زعيماً لتيار سياسي معارض (واصلاحي لمزيد من الجكر وإمعاناً في السخرية!!)، وتدفع تركيا لفؤاد حميرة كي ينشئ لها تياراً علوياً تخبئه لحين الحاجة، ويصبح رياض نعسان آغا الذي قضى ثلثي عمره يسوّق للأسدين الأب والابن برتبة ماسح الأحذية ناطقاً باسم هيئة المفاوضات مع النظام، ويصبح يحيى العريضى الذي قضى أكثر من عقد يناجي فيه بشار الأسد على شاشتي القناة الثانية والفضائية السوريتين بابتهال صوفي وهو ذائب في ملكوته عضواً في هيئة معارضة ستفاوض النظام، ويصبح جهاد مقدسي الذي قضى فترة خدمته ناطقاً لخارجية النظام يبرر مجازره ويسوّغ أفعاله ويسخر من أعدائه مفاوضاً باسم هؤلاء الأعداء، ويصبح رياض حجاب رئيس وزراء بشار الأسد في أصعب أيام القصف على السوريين رئيساً لهيئة التفاوض التي ستجلس مع وفد بشار الأسد وتحاوره.

في عام 2012 بعد انشقاق رياض حجاب عن النظام كنت أتحدث هاتفياً مع كمال اللبواني، وسألته عن رأيه في انشقاق حجاب وكان قد التقاه في عمّان فقال لي أن الدولة التي رشحت رياض حجاب لبشار الأسد رئيساً للوزراء كي يُعطى صلاحيات ويكون جسراً للحل، هي نفسها التي ساعدت حجاب على الانشقاق وأرسلته ليقوم بنفس المهمة إنما من جانب الثورة هذه المرة، وفعلاً من وقتها لم يتوقف حجاب على محاولة الوصول إلى رئاسة الائتلاف ورئاسة الوزارة، إلى أن نجح أخيراً بترؤس الهيئة التي سيوكل إليها تمثيل المعارضة ومفاوضة النظام.

ليس هناك مجنون في العالم يمنع رجالات نظام من الانشقاق عنه والالتحاق بثورة الشعب عليه، لكن بالمقابل ليس هناك عاقل في العالم يسمح لمنشق عن النظام أن يتولى منصب قيادي في المعارضة التي تواجهه، وأقل البشر ذكاءً يفكرون بأن النظام (وخاصة في نظام كالسوري) يحتفظ بملفات ضغط ومساومة لمن عمل معه سواء كانت ملفات فساد مالي أو أخلاقي، يستخدمها عند الحاجة إليها، وهذا أبسط الأسباب التي تدفع دوماً إلى تحييد المنشقين وإبعادهم عن مراكز القرار في أية ثورة في العالم، إلاّ إذا كان المقصود بها استبدال وجوه بأخرى، وتبديل مستخدمين، وليس تغيير النظام.

ليست المعارضة السياسية وحدها التي باعت واشترت وسمسرت للحصول على مكاسب تافهة، فالنشطاء بذلوا كل جهدهم وسخروا طاقاتهم طوال السنوات الأولى للثورة وما يزالون لتشويهها، من أول الكلام الذي يتحدث عن سرقة الإسلاميين للثورة، وهم الذين تركوها وهربوا بعد مشاركتهم في مظاهرة أو اثنتين لزوم التصوير والدعاية والإعلان، وتعاونوا مع كل المنظمات التي كانت تجمع معلومات، وتملأ ملفات وتؤرشف صوراً، وتبني كوادر مستخدمين، إلى الحملة المنظمة التي لم تهدأ أو تتوقف لا في عيد أو عطلة لتشويه صورة كل الإسلاميين الذين يواجهون النظام وحدهم، بمختلف مستويات تشددهم أو اعتدالهم حسب الموضة الدارجة اليوم، وبث إشاعات واختلاق أكاذيب، ليصل العالم اليوم إلى قناعة بأن المشكلة في سورية هي إرهاب تنظيم الدولة وجبهة النصرة، وليس مجازر بشار الأسد، كما ظهر واضحاً في جلسة مجلس الأمن قبل يومين.

مشهد الثورة في سورية اليوم هو مشهد صعب ومعقد ، كم هائل من السماسرة وبائعي الضمائر والشرف والأخلاق والوطنية الذين تعاملوا معها باعتبارها خردوات أو روبابيكيا حسب التعبير المصري، وإلى جانبهم إسلاميين لولا وقوفهم في وجه النظام لأعاد بشار الأسد احتلال سورية واستعباد السوريين خلال أيام، وهم الوحيدين في الخندق الصحيح من بين كل الخنادق الموجودة في سورية، لكن مشكلتهم أنهم لا يقبلوننا، ومشكلتنا أننا غير قادرين على العيش في ظل قوانينهم ونمط حياتهم!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد