الوطن ليس مجرد جغرافيا نعيش فوقها، الوطن هوية وامتداد تاريخي، الوطن هو صلتنا بالوجود، أوطاننا تعيش فينا نحملها معنا أينما كنا؛ لذلك إذا تخلينا عنها تخلت عنا، والنتيجة خراب الأوطان وغربة المواطنين.
لكن السؤال المطروح: ما الشيء الذي يوصلنا لهذه النتيجة الحتمية؟ يعني ما السر في تخلي الطرفين عن بعضهما؟ الأكيد أن واقعنا يحمل إجابات شافية وكافية تحتاج لصاحب نظرة ثاقبة وإدراك عميق، لا أزعم أني أهل لذلك، لكن أحاول أن أطرح رؤيتي البسيطة والمتواضعة لعلي أجد مَن يصوبها من المختصين والدارسين.
الوطنية وظيفة إلزامية على كل مواطن تجاه وطنه وأهله وأمته، وهي ليست وظيفة نمطية إنما تختلف حسب مؤهلات كل فرد؛ لذلك نخدم أوطاننا من خلال مواقعنا التي نشغلها، سواء كنت مفكراً – مدير شركة – أستاذاً بمدرسة – حرفياً – تاجراً – رياضياً – فناناً – سيدة بيت، أياً كان مجالك فهو وسيلتك لتأدية وطنيتك، كما أن الوطنية حب وإيمان يجب أن تنعكس على أرض الواقع، وليس مجرد شعارات تنفخ في الهواء على مدرجات الملاعب وبارتداء قمصان رياضية تحمل ألوان العَلم الوطني.
عندما نغذي وحش الأنانية الساكن فينا على حساب المصلحة العامة وتتغير مفاهيمنا لحب الوطن وخدمته، نحبه عندما يعطينا ونبغضه حين نتضرر فيه، نخدمه حين تقتضي مصلحتنا الخاصة لا غير، وننسحب من هذه الخدمة عندما تغيب المصلحة، نتقاتل نحن أبناء الوطن الواحد لأجل أهواء دنيئة وأغراض شخصية رخيصة، نحن الخاسر الأكبر في هذا التناحر والتطاحن، والمستفيد عدو يتربص بنا ويحيك لنا الدسائس، وينصب لنا المصائد، فينتهز الفرص لفرض هيمنته علينا، ويتحكم فينا كيف شاء فنصبح عبيداً في أوطاننا بعدما كنا أسياد الأرض وملاكها.
عندما يستغل المسؤول منصبه في توجيه المال العام وفق أهوائه ورغباته ويحرم خلقاً كثيراً من حقوقهم القانونية والشرعية، ساعتها يشعر هذا المواطن البسيط أنه مهان في بلده من بني وطنه وجلدته، فأمامه طريقان؛ إما أن يتحول إلى ذئب كالذئاب التي اغتصبت حقه فتعم الفوضى ويدب الفساد أكثر، أو يبحث عن سبيل يخرجه من أرض امتلأت ظلماً وجوراً إلى دار الغربة التي وإن أنعمت عليه بالخيرات المادية فيبقى محروماً من حضن وطن كسائر الناس، حضن يجمع الأهل والأحباب، وفي الحالتين هذا الوطن يسير نحو المجهول، نحو الزوال، بسبب أخطاء ارتكبها حمقى ودفع ثمنها مواطنون أبرياء لا يطلبون سوى العيش الكريم في بلد حلموا به كجنات النعيم.
تستقيل الشعوب من أوطانها حين تتخلى عن وطنيتها، هذه الوطنية التي تعتبر عقد الشراكة ووثيقة الانتماء بين الوطن وأبنائه، فإن ضاعت ضاع الوطن وتشرد المواطنون، الكل يلوم حكومته بأنها السبب في فساد حاله ولا يلوم نفسه؛ حيث ينسى بأنه سبب هذا الفساد، أليست الحكومة تنبثق من رحم الشعب؟ أليس الشعب هو مَن يقرر مصيره، لماذا إذاً لا نحسن اتخاذ القرار (كما تكونوا يولَّى عليكم)، فإن صح هذا يعني يجب إعادة نظر في منظومتنا الاجتماعية أخلاقياً وثقافياً وحتى صلتنا بالدين والتزامنا بشريعته، نحن من ينسج فشله بيده ويعلقه على مشاجب الغرب بداعي التآمر والتكالب علينا، إننا والله لصدقت فينا نظرية مالك بن نبي رحمه الله "القابلية للاستعمار" نعم قبولنا بحالنا وعدم التحرك من أجل تغييره للأحسن والخروج من دائرة التخلف والفساد، جعلنا مستسلمين لمصيرنا المحتوم الذي يرسمه العدو لنا، عندما نرى الفساد يعم ويطم ونسكت عنه، فنحن شركاء الفاسدين، بل السكوت عنهم فساد بعينه، قال الله تعالى: "إِن الله لا يغيِر ما بِقوم حتى يغيِروا ما بِأنفسِهِم" سورة الرعد، الآية: 11.
أجيال تورث أجيالاً الفشل والتقاعس، كل جيل يتسلم من الذي سبقه وطناً أنهكته منظومات فاسدة شجعها في ذلك الأيادي النظيفة المغلولة إلى الأعناق المستسلمة، كيف لوطن أن يشفى من وعكته وأبناؤه يسقونه داء التخلف والفساد بضعف العامة وتسلط واستبداد الساسة، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ندعي أن لنا وطناً نسكنه، ونحن لا نسكِنه فينا، نعم تسكننا أوطاننا إذا صدقنا في وطنيتنا ومارسناها بإتقان دون تخاذل واحتيال.
لا تستقيم الأوطان وشعوبها غافلة مستغفلة أقصى ما تمتلكه من وطنية شعارات رنانة صاخبة تردد في كل مناسبة من أجل استغفال عقول الناس، إنما تستقيم وتنهض بالصدق في النية، والإخلاص في العمل، والتضحية من أجلها بكل ما هو ثمين، وبذل الجهد في تشييدها وبنائها بتخطيط محكم من طرف نخب واعية ومدركة لمتطلبات الحياة ومستجداتها، كما أن توحيد الشمل ضرورة ملحَّة في بناء الوطن والحفاظ عليه، فالوطن ملك للجميع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.