يُمكن تقسيم العالم من حيث تكتلات القوى إلى 3 دوائر كبرى؛ وهي: دائرة الشرق الأقصى، ودائرة العالم الجديد (الغرب الأقصى)، ودائرة الشرق الأوسط والبحر المتوسط، وهي الدائرة التي تهمنا في المقام الأول، يقع بين هذه الدوائر الكبرى دوائر أخرى صغيرة أو بينية، فالأرض مُتصلة؛ إذ إن قيام قوّة ما في بقعة ما على سطح الكوكب يُمكن أن يكون لها تأثير مباشر أو غير مباشر على القوى في بقعة أخرى بعيدة كل البعد عنها.
وبالنظر سريعاً إلى بانوراما الأحداث التاريخية (الماضي) والسياسية (الحاضر) واستقراء المستقبل، يُلاحظ أن عملية التأثير والتأثُّر هذه تزداد قوة وسرعة مع استمرار الزمن في حركته الهُلامية تجاه المجهول.
ففي البدء، نشأت الحضارات شبه منفصلة، فكانت الحروب والنزاعات أقل مما هي عليه الآن، رغم ما شهدته بانوراما التاريخ من حروب شنيعة ومجازر مروعة، حتى في الأزمنة الغابرة. لكن بوجه عام، نستطيع قول ذلك، فقد نشأت الحضارة المصرية القديمة على ضفاف النيل، في الوقت الذي نشأت فيه الحضارة الصينية على ضفاف النهر الأصفر والأزرق، ربما حدث اتصال بين الحضارتين، لكنه لم يكن لفترات طويلة، أو بين الصين عموماً وحضارات الشرق الأوسط.
وبمرور الزمن، اتسعت رقعة الصراع في الشرق الأوسط، فدارت الصراعات بين البابليين والمصريين والحيثيين والإغريق والفينيقيين والرومان وغيرها من قوى، وفي هذه الأثناء تأسست ممالك وسقطت لتقوم على أنقاضها أخرى في الصين، حتى بدأ عصر الممالك المتحاربة هان ووي وتشاو وتشي وتشو ويان، والتي عاشت بينها قوى صغيرة أخرى كدولة يوي، ودولة با، ومملكة تشونغتشان والتي لم تصمد طويلاً أمام قوة مملكة تشاو، في حين عاش سكان الأرض ما وراء بحر الظلمات على ما يبدو في عالم آخر.
كأنه عالم آخر يوازي كل العالم أو ما يعتقد البعض أنه كل العالم، ربما يساويه من ناحية الحضارة والقوة والقيم، ويوازيه في زمنه نفسه، يسير معه الخطى نفسها، لكنه يكاد ينفصل عنه وإن كان في بوتقته نفسها، أو على كوكبه نفسه، وتدور أحداثه بأبطال متشابهين من البشر أمثال غيرهم في العوالم الأخرى.
فلم يسمع هانيبال أو "حنّا بعل" القرطاجي، في أثناء قيادته حملته العسكرية العملاقة على الإمبراطورية الرومانية، لا بمملكة تشونغتشان ولا مملكة تشاو، وبالتأكيد لم يسمع عنها حتى انتحاره هرباً من الأَسر، ولم يسمع بهؤلاء أو بأولئك أصحاب حضارة الإنكا أو الأولمك أو شعوب البيوبلو القديمة في الأميركتين.
بمرور الزمن، تطور التأثير المتبادل بين جنبات الأرض، فعندما قامت إمبراطورية المنغوليين وابتلعت الأراضي الصينية كاملة، توجهت غرباً لتبتلع وسط آسيا وجزءاً كبيراً من غربها، وأسقطت دولة الخلافة العباسية، وهددت أوروبا، ذلك قبل أن تبتلعهم الأراضي التي احتلوها ويعتنقوا الإسلام، ويتحولوا من قوة معادية له إلى قوته الضاربة.
وعندما قامت إمبراطوريتا إسبانيا والبرتغال على أنقاض الأندلس، تعرّض المد الإسلامي في جزر آسيا الشرقية لانتكاسة كبيرة مع أول فوج من السفن الإسبانية حط على سواحل جزر عذراء ماليزيا "الفلبين" ومنع تقدم الإسلام إلى الجزر الشمالية وتايوان ومن ثم الصين الشرقية وكوريا واليابان، كما قُضي على حضارات وثقافات عريقة في "أميركا الوسطى والجنوبية" ومن ثَم الشمالية، وتسبب كذلك في مذابح واسعة بأرجاء مختلفة من الكوكب الأزرق نتيجة ارتفاع المد الاستعماري الأوروبي حول العالم.
أما الآن، فقد تطورت أدوات التأثير والتأثر بشكل فائق، زاد من احتمالية تأثير ظهور أي قوة في أي مكان بالعالم، على قوى أخرى أياً كان مكانها على سطح الكوكب، ومن ثم فإن مُجمل التحديات التي تواجه أي دولة الآن تضاعف عما سبق؛ إذ صارت المنافسة كونية، لا تتوقف عند حدود الإقليم أو حتى القارة.
لا يرجع الفضل في ذلك فقط إلى حاملات الطائرات والصواريخ العابرة للقارات، وإنما للنظام العالمي الجديد بكل محتوياته وأدواته الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية السلوكية العولمية، فالآن لم يعد للمسافات ذلك التأثير الفيزيقي المانع، وتجوّفت الكلمة من معناها المقصود منذ 2000 سنة.
سنستعرض في هذه السلسلة عن "القوة" في العلاقات الدولية، كل دائرة من دوائر تكتلات القوى التي أشرنا إليها، وتاريخ "القوة" في كلٍ منها، وكيف أن امتلاكها وتحصيلها لم يكونا من قبيل الرفاهية؛ بل كانا دائماً، وسيظلان.. من أجل البقاء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.