لا تمُت قبل أن تزور القدس

توقفت الحافلة بالقرب من باب العامود أحد أشهر أبواب القدس، تزاحم الركاب جميعاً فكل له من الشوق نصيب، نزلنا من الحافلة ثم مشينا عشرات الأمتار لنصل إلى باب العامود الذي تراءى لنا يكبر كلما اقتربنا منه، أهو يعظمنا شوقاً للزائرين له؟

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/03 الساعة 02:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/03 الساعة 02:03 بتوقيت غرينتش

اقتربت الحافلة من المدينة المقدسة، كانت الدقائق التي تفصلنا عن أبوابها السبعة دهراً من الشوق والتوق واللوعة واللهفة، كان البعد جمراً يحرق القلب، ويشتعل بين الضلوع فيؤجج بركاناً من الألم تسري أوصاله إلى كامل الجسد، فيخر صريع الشوق متعباً إلى حد الاستسلام، ولكن هذه الرحلة كانت جرعة القوة ولقاح التعب واليأس الذي بات ينهش ألوان الروح نهشاً.

اقترب دليلنا السياحي من مكبر الصوت، وقال: القدس على بُعد خطوات من مسيرنا استعدوا!

بالنسبة لي كانت الخطوات أطول وأصعب من الرحلة أجمع، ولربما أكثر قسوة أيضاً، كنت قد تحايلت على نفسي كثيراً أن أحتمل مرارة البعد عنها، وقد شعرت مراراً أنني طفلة بين زيتونها، تتسلق أسوارها، وتتشبث بأبوابها، تطرق باباً فيقف خلفه تاريخ يفتح الباب ويروي عن نفسه، كان لكل باب من أبوابها عالماً، ما إن تقف أمامه حتى يفتح ذراعيه ويسلم عليك ويحضنك ويعبق بك بعضاً من أثر الذين مروا بين أحضانه فأحبهم وأحبوه، واحتضنهم واحتضنوه، وقدموا على عتباته صلوات الشكر أن وجدوه وقد تاهوا بعضاً من الزمن.

اقتربت الحافلة واقترب الوقت؛ لأن يصبح عقبة الشوق الذي بات في سكراته، فالشوق أيضاً له طاقته وأحزانه، كلما اقتربنا بدا لي السور يفتح قلبه فأرى بعض القباب تستدير من بعيد، تقابل بعضها تتزين بألوانها وزخارفها، تراها تغطي في أحشائها محاريب العابدين الذين صلوا لأجل القدس، وركعوا لأن تنام القدس في سلام، وأغمضوا تحت ثراها أجفانهم يحرسون ترابها كما حرسوا أسوارها يوم كانوا أحياء.

كان السور وحده كافياً لأن يشهق القلب من غيبوبته فتتنفس خلاياه بعض الحياة، وللقلب حياة لا أراها تشبه تلك التي في الجسد، إنها حياة الأحباب الذين يعتكفون في القلب، وأي حبيب أشهى من القدس في تفاصيلها وفي عبق التاريخ الممدد على كل حجر وزاوية في أحضانها! أي قلب ذاك الذي يعرف القدس ولا يحبها!

كان بداخلي أعاصير من اللهفة الدافقة والحب العارم يجتاحني فلا تراني أستطيع الجلوس في مقعدي، أقف أطيل النظر في كل التفاصيل التي تبدو لي من نافذة الحافلة، رفقاً بالقلب يا قدس قليل منك يكفيني ولكن قليلك لا يقال له قليل.. فالقليل من الحبيب كثير.

توقفت الحافلة عند منعطف يضج بالناس لا تتشابه ألوانهم ولا لغاتهم ولا ثيابهم ولا نبضات قلوبهم للقدس هم هنا؛ لأنهم سلكوا طريقاً مغايراً لتاريخهم فتراهم حيارى في أمرهم؛ هل ستقبلنا القدس بين أروقة تاريخها أم نحن جمل مستعرضة في نص تاريخها وملاحم أبطالها؟ وهل بين أرصفة عقباتها كان أجدادنا مرابطين لها أم عليها؟ وأي ذاكرة ملطخة بدماء آبائنا حين ظنوا أن القدس رخيصة وتهون على أهلها فاستعلوا واستكبروا ولكنها صفعت بوجههم أبوابها وصفعت بتاريخهم أن تجرأوا واعتدوا عليها؟

وجوه كثيرة كانت تقطع المنعطف بحيلة ماكرة، ولغة ماكرة وتاريخ ماكر تقرأه في الخوف الذي تتلون به وجوههم.. لا يمكن أن تخاف في وطنك ولا أن تحتار في بلدك.. كيف وأنت تحمل في جسدك تاريخ أوطانك يسري روحاً إلى روحك!

استأنفت الحافلة رحلتها التي رسمها القلب خارطة منذ لحظة الانطلاق، كانت القدس بأسوارها تتوحد في قلب نفسها، فما تراه كلما اقتربت منها يتنفس تاريخاً، أما محيط المدينة فكان خليطاً من أسواق وشوارع وبنايات عالية لا يمكن أن تكون هي القدس التي تريد أن تراها، كانت وصمات لأولئك الذين تجرأوا واقتحموا أبوابها، أولئك القابعين في خوف بين أزقتها، الماكرين الذين يقطعون مفترقاتها بمنتهى الحيطة والحذر كما مكروا التاريخ يوماً وحجزوا لأنفسهم عنوةً في غبرة من الزمان مسكناً فيها، وما كل ساكن بالقدس حبيب.

خطوات ويلمس القلب محبوبته، يتنفس صخرها ويقبل ثراها، ويعانق أبوابها، وبكبرياء يلقي سلام الشرف لقبابها، ينحني لهلالها، ويبكي لصليبها، يسلم على أنبيائها، ويصلي على محمد في معراجها، يسلك دروب آلامها وهل هناك درب في القدس لم يعرف الألم؟! تقول أمي دائماً: أشتم رائحة للقدس لم أشتمها قبلاً، أتراها رائحة التاريخ فيها أم أنا بها أحلم؟ نعم، هي القدس تاريخ من الأحلام في السبات واليقظة.

توقفت الحافلة بالقرب من باب العامود أحد أشهر أبواب القدس، تزاحم الركاب جميعاً فكل له من الشوق نصيب، نزلنا من الحافلة ثم مشينا عشرات الأمتار لنصل إلى باب العامود الذي تراءى لنا يكبر كلما اقتربنا منه، أهو يعظمنا شوقاً للزائرين له؟

كانت الطريق تعج بالسياح والحرس، كل لا يدري أي قدر ساقه إلى أبوابها، ولكنهم جميعاً ليسوا أهلها وإن كانت كرماً تستقبل من يزورها مسالماً.

نزلنا بعض الدرجات ثم دخلنا باب العامود دخول المنتصر، ربما كان الأجدر أن نكون حينها زرناها فاتحين لها رافعين لواء حريتها، ولكن ما كل ما في البال يطال يا حبيبة البال يا قدس، ثم تجولنا في التاريخ فهنا وقف عمر بن الخطاب حين دخلها فاتحاً، فقال: "يا أهل إيلياء لكم ما لنا وعليكم ما علينا"، ثم دعاه البطريرك صفرونيوس لتفقد كنيسة القيامة، فلبى دعوته، وأدركته الصلاة وهو فيها فالتفت إلى البطريرك وقال له أين أصلي؟ فقال: "مكانك صلّ"، فقال: ما كان لعمر أن يصلي في كنيسة القيامة فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلى عمر ويبنون عليه مسجداً، وابتعد عنها رمية حجر وفرش عباءته وصلى، وجاء المسلمون من بعده وبنوا على ذلك المكان مسجداً هو مسجد عمر، صليت به ركعتين ما رأيت القلب أكثر خشوعاً منه في هذا المقام.

وأكملت مسيري في القدس تطل عليك كنيسة ثم ترى مسجداً، يمر بجوارك أسقف وإلى جواره شيخ يلف عمامته ويمسك مسبحته يعقد في خرزاتها توبته وصلواته، ثم ما تلبث أن ترى راهبةً مرت بوقار فتحن إلى العذراء مريم أين تراها أخفت دموعها في القدس، كيف قضت أيامها بدون ابنها الذي هي له الأم والأب! ثم يقطع أحلامك بائع يجر عربته ينادي: "تذوق كعك القدس كي تعود لها" أواه يا قلب، أنا أتنفس القدس كيف أتذوقها في كعكة!

ثم في سهوة الفكر رفعت بصري فإذا أنا أمام قبة ذهبية تخطف لباب القلب، قبة الصخرة المشرفة، تحت هذه القبة صخرة هي أعز ما في القدس على قلبي، هنا صعد محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى سبع سماوات في رحلة ربطت بين السماء والأرض، فتوحدت فيهما القدس، وأصبحت بوابة السماء الأولى، هكذا هي قدسنا سماوية العُلى، بها صلى الأنبياء جميعاً فاجتمعت بها كراماتهم وأصبحت مدينة الأنبياء.. حبيبتي أنت يا قدس.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد