قد أتفهم المعاناة النفسية والاجتماعية التي يحملها مهاجرو العالم الثالث معهم إلى كندا، فهي لم تكن هيِّنة، أجيال وعقود طويلة من الديكتاتورية وانعدام الحرية، ناهيك عن ويلات الحروب والاحتلال، وهذه كلها أمور أدَّت إلى تفاقم الأزمات النفسية لدى مواطني العالم الثالث، فقد اعتاد البعض رغماً عنهم استجداء حقوقهم الأولية كالعدالة الاجتماعية وحرية التفكير والتعبير وإلى آخر تلك القضايا التي وفرتها كندا لمواطنيها من دون تعب، الشيء الذي فجَّر عواطفنا تجاه كندا، لكن ما لا أفهَّمه … هو تشبث هؤلاء المهاجرين بتلك الأمراض النفسية والإصرار على ممارستها، الأمر الذي أدَّى إلى تنغيص حياتهم وحياة مَن حولهم من أبناء الجالية، فقد تخلصوا من ديكتاتورية الشرق العسكرية، ليخلقوا لأنفسهم ديكتاتورية الغرب العاطفية، ليبقوا يتقلبون بين احتلال وآخر.
جميل أن تُحب البلاد الحرَّة، لكن من القبيح ألاَّ تفهم فحوى هذه الحرية، هذه النفسية التي حملوها معهم من العالم الثالث أعمَت أبصارهم عن سلبيات العالم الأول، فهم لا يرغبون في سماع أي نقد لكندا أو حتى السماح لأحد بالتكلم في هذا الشأن، هذه أمراض نفسية عويصة وتحتاج إلى علاج، فهي تَظهر تارة على هيئة قمع لمَن يمارس الديمقراطية في كندا من أبناء العرب، وتَظهر تارة أخرى على هيئة تسول وإهانة للذات، وأحياناً تظهر معاً في وتيرة منتظمة بحيث يبدأ القمع أولاً ومن ثم التسول فتجد هؤلاء المساكين يشتاطون غضباً مِمَن يمارس صلاحيته الدستورية في كندا كمواطن حر: (هل هذا جزاء الخير الذي أعطتك إياه كندا؟ ألا تحمد الله أنهم آووك وجعلوك مواطناً؟ إن كانت كندا لا تعجبك … لماذا لا ترحل وتعود إلى عالمك العربي المتخلف؟!).
لا يريدونك أن تتفوه بكلمة ويحرمونك من ممارسة الديمقراطية التي كفلها لك الدستور، هذا ليس له مصطلح آخر سوى العبودية، عبيد في العالم الأول … لما؟ مَن طلب منكم أن تكونوا كذلك؟ مَن قال بأنَّ الديمقراطية فقط تصفيق للحكومة؟ هذا ممكن في العالم الثالث … ولكن ليس في كندا، حتى الكنديين لم يطلبوا منا الصمت والنكوص على أنفسنا، دائماً ما يطالبون المهاجرين بالمشاركة في العملية الديمقراطية من الخلال الانتخاب والتعبير عن الرأي، حتى أنهم يقولونها صراحة: (إن لم تخبرونا باعتراضاتكم وحاجاتكم كجالية إسلامية … كيف لنا أن نعرف عنها؟).
عندما جاء فصل الصيف الماضي، وهو حدث مهم في كندا، أرسلت لنا مساعدة رئيس الشركة التي أعمل فيها بدعوة لحضور حفل شواء في الهواء الطلق في وقت الغداء للاستمتاع بدخول فصل الصيف، لم أستطع الذهاب لأنَّ الدعوة جاءت في شهر رمضان وكنت صائماً، فاعتذرت عن الدعوة وأبلغتها أني كنت أتمنى المشاركة، ولكن لم أتمكن من ذلك بسبب شهر المسلمين الفضيل، فردت علىَّ وشكرتني على الإيضاح، واعتذرت لأنها لم تنتبه لذلك، وقالت لي أنَّ هذا الشهر سيكون ضمن اعتبارات التخطيط لحفل الصيف القادم. إن لم أخبرها … كيف لها أن تعرف؟ لابد من المشاركة والمحافظة على صوتنا عالياً بكل أدب ولياقة وأناقة.
ما يُثير السخرية أنهم لا يقبلون من الكندي الأبيض أن يمارس حقوقه الدستورية في نقد بلده وحكومته، ويصمتون بسلام كالحملان، وإذا نطقوا … قالوا: (أنظروا إلى هذا البلد الديمقراطي الذي يتكلم فيه المواطنون آمنون لا يخشون على رقابهم من أن تطير)، بينما مع العربي (أصمت يا رجل وأحمد الله أنهم سمحوا لك بالاستيطان !!)، وقد يكون هذا الانفصام في الشخصية هو نتيجة الكره الذي يحملونه في قلوبهم وعقولهم لذاتهم الشرقية.
من شدة الذل الذي عانوه في الشرق، تجدهم ينسون أنهم قد جاؤوا إلى كندا مهاجرين وليس لاجئين، يقول لي أحدهم عندما سمعني أنتقد بعض السلبيات في كندا: (هل هذا جزاء الدولة التي احتضنتك وآوتك وأعطتك الأمان؟)، فقلت له: (يجب عليك أن تفرِّق بين المهاجر ذو الكفاءة وبين اللاجئ، فالمهاجر يتم قبوله ضمن عقد اجتماعي بينه وبين الدولة على أن يأتي ويساهم في بناء البلاد ويدفع الضرائب ويُحرك اقتصاد كندا، وهذا عكس اللاجئ الذي يتم قبوله واستقدامه لظروف إنسانية، قد لا يتمتع بأي كفاءة توافق المعايير الكندية، فيتم إغاثته ضمن نفقات الدولة على أمل أن يتعلم شيئاً في المستقبل ينفع به الاقتصاد الكندي، وأنا عندما جئت إلى كندا لم أكن لاجئاً بل جئت مُهاجراً ضمن فئة " العمالة الماهرة " والتي التزمت بعقدها الاجتماعي مع الدولة في بناء كندا، ولو لم أكن كذلك … لمَا سمحوا لي بالهجرة، فليس لأحد فضل على أحد، إنما هي المصالح المشتركة، فالمهاجر الصادق فضله على الدولة كبير، أما اللاجئ ففضل الدولة وجميع الكنديين عليه كبير).
لا ينبغي إهانة الذات وتكريس فكرة الذل بهذه الطريقة حتى لو كان بعضنا من فئة اللاجئين، فإن كنت تنوي العيش بهذه العقلية المُتردِّية والمقفلة ولا تريد ممارسة الديمقراطية الكندية من خلال النقد والتطوير ودفع عجلة المجتمع إلى الأعلى، أنصحك بالانعزال عن المجتمع، فمثلما صمت لسانك – طوعاً – عن نقد أخطاء كندا، أولى بك أن تصمت وتكف أذاك عن أبناء الجالية من المفكرين والناقدين الذين يعملون على الاستمتاع بحياتهم فيها.
هذا الذل من جهة والديكتاتورية من جهة أخرى هما وجهان لعملة تُسمَّى (الفشل)، تلك العملة التي لا يقبلها أي بنك في الغرب، فأولئك الذين يحملون هذه العملة في جيوبهم، أنصحهم بعدم القدوم إلى كندا لأنهم سيدفعون ثمنها ضعفين، ثمن الديكتاتورية وثمن الذل!
أنت لست مضطراً أن تحمل معك هذه العملة إلى الغرب، ألقي بها من نافذة الطائرة قبل الرحيل، لأنها أنتجت لنا ضياعاً للحقوق وانعداماً للقيمة الوطنية في كندا، فالخوف من النظام الغربي وأجهزته الأمنية وقضائه أدَّى إلى خسارة فادحة لأبناء الجالية، فاليهود في أمريكا الشمالية لم يصنعوا المعجزات لأنها غير موجودة، بل مارسوا حريَّاتهم – بذكاء وهدوء – ضمن المنظومة الاجتماعية والقانونية … ونجحوا في ذلك، أما مهاجرو العالم الثالث فرجل الأمن مرتبط في أذهانهم بالديكتاتورية، والقانون والقضاء والمحامون مرتبطون في أذهانهم بالفساد، وبين هذا وذاك … ضاعت أمة في الغرب.
لا يمنعك أحد من ممارسة القانون في كندا والمطالبة بحقوقك … لك كامل الحرية في ذلك، ومع أنَّ الوصول إلى القانون باهظ الثمن إلاَّ أنه نافذ ومُنصِف، وإن كان الأمر كما تعتقد، لمَا استطاع " ماهر عرار " الكندي من أصل سوري من كسب قضيته ضد حكومة المحافظين … أكثر حكومات كندا تطرفاً وعنصرية تجاه المسلمين، ولمَا كسبت " زونيرا إسحاق " الكندية من أصل باكستاني قضيتها ضد نفس الحكومة، فالعملية اختيار وليس إجبار، اختيار بين أن تبقى تحمل هذه العملة في جيبك وتحتفظ بها، وبين أن تضعها في المتحف وتتخلص منها.
أختم بخبر المهاجر الإسرائيلي الذي رفض أن يتعهد بالولاء للمكلة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا العظمى وكندا، وذلك خلال مراسم قسم اليمين للحصول على الجنسية الكندية، ورفع قضية على حكومة كندا مطالباً بتغيير نص قسم اليمين بحيث يتم إزلة جملة )الولاء للملكة( لأنه يأمل أن تتحول كندا يوماً ما إلى جمهورية على غرار جارتها الولايات المتحدة، وعندما لم يتمكن من ذلك، نصحه القاضي بأن يُقسم اليمين بنفس الحالي ليحصل على الجنسية الكندية، ومن ثم له كامل الحرية في نقض ولائه للملكة، وهذا ما حدث، فلم يقطع رأسه أحد، ولم يسحب جنسيته أحد!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.