الكثير من الوهم.. والقليل من العطاء

التوازن في كل الأمور محمود، ومدرسة الحياة كاشفة، ولا يمكنك الاستمرار في إخفاء ما تود وإظهار ما ترضى. قول "لا أعلم" جميل في موضعه، ومحفز للنفس على الاستزادة، على عكس التعالم والتصنع بامتلاك المعرفة وأدواتها، إذ ليس له نهاية إلا قول أبي حنيفة: "آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه".. فاحترم ذاتك وقدّر نفسك، ولا تسمح للآخرين بأن يمدّوا أقدامهم في وجه جهلك وتعالمك.. كل الطرق إلى العلم مندوحة، إلا طريق المتصنعين مظهري ما ليس لهم والمتعالين.

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/18 الساعة 03:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/18 الساعة 03:34 بتوقيت غرينتش

ذات مرة، دخلت لإجراء مقابلة وظيفية، وبعد أن طلبت من المرشح للوظيفة تقديم نفسه وخبراته، وجدته يعرض نفسه كأنما هو فريد زمانه ووحيد عصره، ويتحدث عن إنجازات ومهارات كثيرة، ولا يزال يفتأ يذكر مساهماته ومشاركاته هنا وهناك. وبعد المقابلة.. وحين أبحرت في البحث في الحقيقة لم أجد إلا فقاعة هلامية صنعها لذاته وراح يروجها للناس.

ابتلينا في هذه الأيام بقوم ليس لهم من الجوهر إلا غطاؤه، يقدمون المظاهر على لآلئ الدواخل، ينمقون كلاماً عاماً يسيرون به في الطرقات مبشرين، ولذواتهم مسوّقين. يحسنون ترتيب الكلام، ويبنون لذواتهم أسواراً مزيفة من خداع الهيئة والهندام! وهو ما يسمى علمياً بـ "التفوق المتوهم" حيث يبدأ المرء بتضخيم ذاته، وتعظيم نفسه.

كم من الشهادات زوّرت في سبيل تضخيم جسم صاحبها وهالته على حساب عقله ووجدانه، وكم من السرقات الفكرية تمت لأجل إرضاء نزوات أفراد وإبرازهم كمفكرين وعلماء أمام مجتمعهم!

تنظر في كثير من السير الذاتية، فترى فيها صفحات مزركشة بحشو الكلام وعامّه، وفي المقابل سير ذاتية مختصرة تهز الأرض بعظيم فعلها.. وحين تتكلم الأفعال تصمت الأقوال.

يقف السياسي في خطابه الأثير، فيقدم نفسه كما لو أنه المخلّص القادم لهذه الأمة، ويدلل على كلامه بإنجازات من حياته الحافلة بالخير والعطاء، ويعد جماهيره الغفيرة بما لذ وطاب من حكم رشيد، وبسط في العيش ولذته، وهو يعلم أنه لا يملك من ذلك شيئاً، وأن من أمامه قد مرّ عليهم كثير من أمثاله.

الصدق هو سيد الأخلاق، ورأس مال المرء في عمله وحياته، وتسويقك لنفسك لا يعني الاستزادة مما لا تملك، وبناء برج فارغ إلا من الكلام. الحكمة هي في أن تعرف نفسك، وتتقبلها، والشجاعة هي في الإقدام على تغيير سيئها وتطوير الخيّر فيها، و"رحم الله امرأً عرف قدر نفسه".

التوازن في كل الأمور محمود، ومدرسة الحياة كاشفة، ولا يمكنك الاستمرار في إخفاء ما تود وإظهار ما ترضى. قول "لا أعلم" جميل في موضعه، ومحفز للنفس على الاستزادة، على عكس التعالم والتصنع بامتلاك المعرفة وأدواتها، إذ ليس له نهاية إلا قول أبي حنيفة: "آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه".. فاحترم ذاتك وقدّر نفسك، ولا تسمح للآخرين بأن يمدّوا أقدامهم في وجه جهلك وتعالمك.. كل الطرق إلى العلم مندوحة، إلا طريق المتصنعين مظهري ما ليس لهم والمتعالين.

ونفس الكلام ينطبق على المؤسسات والمنظمات أيضاً، إذ إنه ليس حكراً على الأفراد، فتراك تلِج أبواب المؤسسة لتسمع بديع الكلام وترى كبير الخطط، وجميل الهندام، ولكن على الأرض تختلف المعطيات والأرقام، وتنقلب المعادلات! وعندما تدقق ملياً تجد كثيراً من الوهم.. وقليلاً من العطاء.

مؤسسات بطولها وعرضها، وموظفون إداريون كثر، وميزانيات ضخمة، يتفوق عليهم شباب مخلص متحمس، لديه حماسة للعمل، ونظره على النتائج والإنجازات، لا على التزويقات والبهرجات!

أصبحنا اليوم نعيش في مجتمع يعتاش على تضخيم نفسه، مئات من الدعايات التي نشاهدها يومياً، ونحن نعتقد بأن ما تروجه هو أكبر فعلياً من الحقيقة والواقع، ومنتجات كثيرة ابتعناها على أنها حلول جذرية لمشاكل أو أمراض تلازمنا ثم ما فتئت الحقيقة أن ظهرت على غير ما أردنا وأرادت!
الجمال.. كل الجمال هو في البساطة، والتواضع، والقناعة بالموجود.. في ظل العمل بجدٍ لإيجاد المفقود. وما علا ذلك فهو ظل زائف متوهم سيورد صاحبه المهالك.. حتى وإن طال أمده.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد