نسمع كثيراً عن الفنانين الذين انتهت حياتهم بالانتحار بعد معاناة شديدة من الاكتئاب الحاد والوحدة، والفنان الذي أتكلم عنه هو ذلك الذي سجَّل التاريخ اسمه في عالم الفن، ذلك الذي وُلد من أجل الفن وقدره أن يكون فناناً وليس أولئك الفنانين الذين يريدون الشهرة باسم الفن ويتاجرون باسمه، وكم كثروا في زمننا هذا.
أولاً: ما معنى أن تكون فناناً؟
الٕانسان العادي يحس بالمشاعر، أما الفنان فهو يراها، يراها جداً ويعيش من خلالها، أن تكون فناناً معناه أن تكون محرّر الأحاسيس، حساساً جداً ومن أجل أي شيء، من أجل أي خلل أو خطأ صغير يحدث في هذا العالم حتى وبدون قصد، كل تلك الأمور البسيطة التي أنت لا تبالي بها، كخروج كتاب من حافة المكتب أو أقلام ليست مرتبة من الأصغر إلى الأكبر وغيرها من الأمور، فذلك قد يزعجه ويعكر صفو يومه.
أن تكون فناناً معناه أن تريد كل شيء في هذا الكون يسير بشكل مثالي، أن تسعى إلى الكمال والمثالية، وبالنسبة للفنان ذلك أمر غير مبالغ فيه بل هو أمر طبيعي جداً؛ حيث يكره الظلم والفقر والحروب ويتأثر كثيراً منها، يقلق من شخص رمى ورقة على الأرض، ينزعج من رجل أساء إلى عامل نظافة أو من امرأة صرخت على ابنها، يلاحظ أشياء أنت أصلاً لا تلاحظها كعدد الرموش في عينك اليمنى ليست بنفس عدد الرموش في عينك اليسرى، ومن الممكن أن لا ينام الليلة من أجل كلمة قالها ورأى من الأنسب أن يقول كلمة أخرى بدلها نعم وبدون مبالغة.
في حين أن الجميع ينظر للأمور بطريقة سطحية فهو يذوب في التفاصيل، وتلك التفاصيل تأخذه نحو التعب والإرهاق، فحساسيته المفرطة تجاه الأشياء والأشخاص والأفعال ونظام الكون الذي لا يسير بطريقة مثالية تجعله سلبياً، متشائماً، وذلك يشكل عبئاً ثقيلاً على أكتافه.
صحيح أن الفن جميل ويسعى لبلوغ ذروة من الجمال والذوق الراقي، وأن الفن قد لا يغير العالم لكنه طريق مشرق يؤدي نحو المحبة والسلام، لكن إذا زاد الشيء عن حده انقلب لضده، والفنان الحقيقي لا يستطيع أن يقيم حداً لحبه وشغفه للفن، فيسعى إلى شيء أكبر بكثير من الفن، إلى شيء كامل مثالي مليء بالمشاعر والأحاسيس.
لا بدَّ أنك تساءلت يوماً: ما تعني تلك اللوحات الغريبة؟ لماذا تبدو الوجوه مرسومة بطريقة شاذة جداً؟ لماذا تلك الألوان، والأشكال، والحركات؟ ما الجميل في شيء غير مفهوم وغريب؟ وأنا أجيبك يا صديقي، إن قمت بمشاهدة رسومات بيكاسو للإنسان بدقة منذ أن بدأت مسيرته الفنية حتى نهايتها، لكنت لاحظت بمرور الزمن أن لوحاته تبدو أكثر تعقيداً، كلما تقدم خطوة في مجاله الفني وكلما تقدم في العمر زاد رسمه للإنسان أكثر غرابة وتعقيداً، وهذا ما يفسر أن الفنان بيكاسو بمرور الزمن اكتشف مدى تعقيد النفس البشرية ومدى صعوبة فهمها، بكل بساطة فإن اللوحات الفنية هي مرآة أفكار الفنان والخيال عنده حقيقة.. فكم يصعب فهم الفنان!
فان غوخ.. الفنان الذي خفق قلبي لأجله "فناني المفضل "، ويعتبر أحد كبار الفنانين الذي تركوا بصمة في تاريخ الفن، ولُقِّب بـ"أبو المدرسة التعبيرية"، مات فينست فان غوخ منتحراً بعدما ترك رسالة إلى أخيه ثيو الذي طالما كان يكتب له فقط، قال في رسالته تلك:" إلى أين تمضي الحياة بي؟ ما الذي يصنع العقل بنا؟ إنه يفقد الأشياء بهجتنا ويقودنا نحو الكآبة، إنني أتعفن مللاً لولا ريشتي وألواني أعيد بها خلق الأشياء من جديد.. كل الأشياء تبدو باردة وباهتة..ماذا أصنع؟ أريد أن أبتكر خطوطاً وألواناً جديدة غير تلك التي يتعثر بصرنا بها كل يوم، كل الألوان القديمة لها بريق حزين في قلبي، هل هي كذلك أم عيني مريضتان؟.. "وختم رسالته بـ"سأغادر الحياة.. ولكن لماذا؟ إنه الإخفاق مجدداً.. البؤس لن ينتهي أبداً، وداعاً ثيو سأغادر نحو الربيع".
يفسر ذلك أن فان غوغ كان يبحث عن شيء آخر، شيء جديد، مثالي، كامل، لقد ملَّ من هذا الكون المتمرد والأشياء حوله لم تكفِه؛ لكي يبلغ تلك الذروة من الجمال الذي يبحث عنه، الجمال الكامل، لم يجد ما يريده في الدنيا فتعب وقرر الرحيل.
لو استخلصنا مجملاً، لقلنا إن الفنان كونه إنساناً حساس جداً، ويسعى إلى تحقيق الكمال والمثالية في الدنيا وذلك أمر مستحيل.. لكن ماذا عن الآخرة؟ لو نفرض أن الفنان كان مسلماً وآمَن بأن تلك الكمالية التي يسعى إليها ستتحقق وسينالها، سيعيش في عالم المثل الذي رسمه في ذهنه؛ حيث السلام والحب والفن الأبدي، حيث الشعور بالراحة وكل شيء يمكن تحقيقه، كل شيء مثالي، كل شيء كما يجب.. هناك؛ حيث ذلك العالم السحري يسمى بالجنة "جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين" نعم، لهم فيها ما يشاءون. لو كان الفنان يؤمن بالجنة لكان حملاً ثقيلاً تحرر من كتفه، سيعيش أكثر ارتياحاً في الدنيا، كونه مؤمناً ومسلماً يعني سيحصل على ما كان يسعى إليه في الدنيا وأكثر بكثير.
سيتحرر من الشعور بالكآبة، سيعرف أن كل واحد يعيش على كوكب الأرض سيأخذ حقه في الأخير، سيعرف أن الظالم سيحاسب على ظلمه، وأن الفقير يُجزى على صبره، وأن الرجل الذي استهزأ بعامل النظافة سيحاسب على فعله، وأن كل فرد في هذه الحياة سيأخذ حقه، سيؤمن أن العالم يمشي تحت قوة القدر ولن يستطيع بشر تغييره، مجرد معرفته بكل ذلك فسيشعره حتماً بالراحة والطمأنينة والسلام النفسي، سيعرف الله، سيعرف الجمال الحقيقي، سيعرف العادل ولا يوجد في الدنيا من أعدل منه، سيعرف أن الدنيا ليست كل شيء، وأن كل شيء في الجنة، سيعرف شعوراً جميلاً جداً، وسيحب الفن أكثر، فالفنان ليس مجنوناً؛ بل هو فقط إنسان حساس جداً، ويسعى إلى شيء مثالي وكامل، حتى ولو كان مجنوناً، فذلك ما قاده إلى الجنون حتماً.
وحده الإسلام يحمي الفنان من الانتحار، وحده يحميه من التهلكة، فيجعل حياته نوراً على نور.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.