خلال التحضير لمؤتمر المعارضة الأول الذي عقد في مدينة أنطاليا التركية في بداية الثورة، كان السبب المعلن لرفض الدكتور برهان غليون حضور المؤتمر، رغم كل الإغراءات التي قُدّمت له، وجود أنس العبدة ورضوان زيادة المرتبطين بالمخابرات الأميركية في المؤتمر، وتلقي الأول دعماً مالياً من الخارجية الأميركية موّل فيه محطته التلفزيونية المعارضة "بردى"، فيما تموّل المخابرات الأميركية مركز دراسات للثاني بحسب اتهامات الدكتور غليون لهما وقتها، وساعتها برر أنس العبدة ذلك بأن كل قرش قبضه من الأميركان تم بعلم ومعرفة رياض الترك، زعيم حزب الشعب الديمقراطي، وأحد أبرز زعماء المعارضة السورية تاريخياً، والمتحكم الفعلي بإعلان دمشق للتغيير الديمقراطي الذي كان يمثله العبدة في لندن، وأن جزءاً من الأموال التي تلقاها موّل بها محطته التلفزيونية، وأرسل الجزء الآخر إلى قيادة إعلان دمشق داخل سورية لتوزع على عوائل المعتقلين، فيما صمت رضوان زيادة عن اتهام الدكتور غليون له ولم يرد.
بعد موقف الدكتور برهان غليون هذا من التعامل مع أجهزة المخابرات أو السفارات أو وزارات الخارجية أو مراكز الدراسات أو ما يسمى بجمعيات المجتمع المدني في الغرب، وتلقي المساعدات المالية منها بحجج الدعم الشخصي أو الإنفاق على الثورة أو دعم مشاريع ثقافية أو إعلامية أو حقوقية أو تنظيم دورات إعلامية أو حقوقية أو تمويل ناشطين، لا أذكر أني سمعت مواقف واضحة بخصوص التعامل المالي أو التنظيمي تحت أي شعار من شعارات دعم الثورة أو تمويل مشاريع تنويرية أو إنشاء إعلام أو مؤسسات بديلة، حتى من الدكتور غليون نفسه الذي قبل فيما بعد عندما أصبح رئيساً للمجلس الوطني أن يُجلس أنس العبدة إلى يمينه، ورضوان زيادة إلى يساره.
تغيّرت مفاهيم كثيرة خلال الثورة.. وصار النظر للتعامل مع دولة أجنبية سواء بواجهاتها الصريحة كالسفارات ووزارات الخارجية أو أجهزة الاستخبارات، أو عبر قفازات أقل خشونة ترتديها كالمنظمات المستقلة أو مراكز الأبحاث والدراسات، وتحت حجج سامية أو تبريرات مقنّعة (بتشديد النون أو بدونه)، وما كان ينظر إليه في الدول الوطنية الاستبدادية باعتباره أمراً محرماً على مواطنيها، ومسموح فقط لأنظمتها، صار أمراً طبيعياً وعادياً، وأصبح من المألوف أن تسمع عن معارض سوري أنشأ مركز دراسات في أميركا ويتلقى دعماً من وكالة المخابرات المركزية عبر وزارة الخارجية، وآخر في إسطنبول أنشأ بيتاً ثقافياً ويتلقى دعماً مالياً من عدة استخبارات أوروبية عبر منظمات مستقلة، وثالث ينشأ حزباً سورياً بدعم قطري عبر واجهة مركز دراسات، ورابع يُنشأ تياراً ديمقراطياً يدخل به الائتلاف بدعم سعودي، إضافة إلى رشى كثيرة تُقدّم لناشطين شباب تحت اسم مكافئة نهاية الدورات الحقوقية والإعلامية.
إضافة إلى هذا النوع الذي يفضّل تمويلاً احتيالياً لمشروع وعبر واجهات أقل استفزازاً من مراكز الاستخبارات أو وزارات الخارجية، ظهر معارضون أكثر وضوحاً وأقل حرجاً في مسألة التمويل، وبعض هؤلاء يتفاخر بارتباطه بهذا الجهاز أو ذاك من أجهزة المخابرات الدولية أو الإقليمية أو العربية، وحصوله على ثروات طائلة مقابل المعلومات التي يقدمها لهم عن هذا التنظيم، أو عن إحداثية تلك المنطقة، وتبريره في ذلك مساعدة تلك الأجهزة في حملتها على الإرهاب جاهز على طرف لسانه.
ذات يوم أجابني الدكتور كمال اللبواني، خلال فترة التحضير لتشكيل ائتلاف المعارضة في عمان عن سؤالي حول الجهات الموجودة لرعاية هذا الجسم المعارض الجديد، بأنه لا توجد جهة استخباراتية في العالم إلاّ ولها مندوب هنا بما في ذلك الموساد والمخابرات السورية، ويومها نظرت إلى كلامه باعتباره دعابة فيها الكثير من المبالغة، أما اليوم وبعد أن شاهدت ما شاهدت وسمعت ما سمعت، أظن أنه كان يقلل من حجم الكارثة التي أدخلت فيها المعارضة والمعارضون الثورة السورية، إثر تحوّل النخبة السورية إلى مجموعة تابعين لكل أجهزة المخابرات في العالم، وما بدا مستهجناً في بدايات الثورة أن يصرّح فراس طلاس (نجل وزير الدفاع المزمن أيام حافظ الأسد وابنه بشار فيما بعد وأحد أركان النظام السوري الأساسيين) بأنه جمع ضباط الجيش الحر بضباط من وكالة المخابرات الأمريكية، غدا اعتيادياً فيما بعد حين ظهر من يُدافع عن زيارة كمال اللبواني إلى إسرائيل، ومن بعده طلب أحمد الجربا التعاون معها، ودائماً كانت الحجج التي تُساق مصلحة الثورة والبحث عن أي طريقة للتخلص من النظام وإنقاذ أرواح البشر.
حتى يهوذا الأسخريوطي عندما سلّم السيد المسيح كانت لديه تبريراته، ولم يقل قط إنه فعل ذلك من أجل ثلاثين من الفضة، وكان لدى بروتوس منطقه المقنع لاغتيال يوليوس قيصر، وسلّم الجنرال بيتان باريس للنازيين لينقذها من الدمار برأيه، وبنفس السياق كان من الطبيعي أن تجتمع الأسبوع الماضي شخصيات مُختارة بعناية ومرتبطة بكل أجهزة المخابرات ومرتبطة بكل أنواع النُظم وتمثّل كل شيء إلا الثورة والوطنية السورية، وباسم الدولة المدنية والمواطنة والمساواة لتكتب دستوراً جديداً لسورية على قياس الممولين والمنظمين والجهات الراعية، وتضع سورية تحت وصاية غربية استعمارية.
دائماً يشغلني سؤال لهؤلاء: إذا كنتم مستعدين للارتباط بهذا العدد الكبير من أجهزة المخابرات، ووضع مهاراتكم في خدمتها، أين كانت مشكلتكم مع النظام السوري ومخابراته؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.