ليس أطفالنا وحدهم الذين يزج بهم في السجون لأسباب سياسية، أطفالهم أيضاً، فقد اعتقل الرجل وعمره نحو خمسة عشر عاماً، وبلاده تبعد عن بلادي آلاف الأميال، وفي عام أربعة وسبعين، أي بعد تسعة وعشرين عاماً من ميلاده أطلق سراحه ليذهب إلى كوبا، ثم يقرر العودة إلى وطنه مناضلاً ضد حكم ديكتاتوري، ليصبح رئيساً لبلاده عام أربعة وثمانين، ثم يعاد انتخابه عام ألفين وستة ثم مرة ثالثة عام ألفين وأحد عشر.
إليه قررت أن أتوجه ، رتبت حاجاتي ثم أخذت مقعدي، غفوت قليلاً، وعندما استيقظت استمتعت بفنجان من القهوة وأنا أقرأ كتابي، تعبت فقررت أن أشاهد فيلماً، وعقب ذلك طالبت بوجبتي، ثم نمت قليلاً، ثم استيقظت لأجد أنني قد قضيت نحو خمس ساعات محلقاً في السماء، وقد تبقت عشر ساعات أخرى أظل فيها رهين هذا الكرسي اللعين، إلى أن تهبط طائرتي في مطار ساو باولو البرازيلي قادمة من دبي.
قضيت عدة ساعات ترانزيت، ثم استقللت طائرة جديدة لست ساعات أخرى متوجهاً إلى بنما، وبعد عدة ساعات في مطارها حملتني طائرة أخيرة لمدة ساعتين ونصف الساعة حتى وصلت مبتغاي.
كان ذلك في الشهر الأخير من عام ألفين وسبعة، وقبل هذا الموعد كنت قد أمضيت نحو أربعة شهور وأنا أرتب لهذه الزيارة، أقرأ الأبحاث القيمة التي أغرقني بها الأستاذ جمال إدريس، وأتواصل مع صديقي مصطفى، الذي تولى الوساطة بيني وبين المعنيين حتى أحظى باللقاء المرتقب مع المعتقل طفلاً، المهاجر شاباً، المناضل سابقاً، الرئيس حالياً.
مثل الأطفال أنا، تستهويني الفكرة فأنطلق إليها غير عابئ بكلفتها الجسدية أو المادية، كنت دهشاً من عودة اليسار إلى حكم أميركا اللاتينية، فمنذ فوز تشافيز بانتخابات الرئاسة في فنزويلا عام سبعة وتسعين والقارة اللاتينية تتجه يساراً، فبعده وصل العامل لولا إلى حكم البرازيل، وبعده النقابي مورالس إلى رئاسة بوليفيا، وامتد انتصار اليسار إلى الأرجنتين وأوروغواي وتشيلي والإكوادور وغواتيمالا ونيكاراغوا، وهذه الأخيرة هي التي قررت زيارتها ولقاء رئيسها دانيال أورتيغا، الذي قد قاد الثوار الساندنستيين للإطاحة بنظام الدكتاتور سوموزا، المدعوم آنذاك من الولايات المتحدة.
أصِلُ العاصمة ماناغوا في وقت متأخر من المساء، لا أحب أن أدخل المدن والليل هو السائد، الانطباعات الأولى مهمة، واللون الأسود يحول دونها. أدخل إلى غرفتي في فندقي الصغير، الساعات العشر الفارقة في التوقيت بين ما كنت وما أصبحت تحول دون النوم، غير أني أفوز بساعتين، أستيقظ لأبدأ الاتصالات.
عالم آخر هذه المدينة، سكانها أكثر قليلاً من مليون نسمة، طقسها معتدل طوال العام، لكن زلازلها متعددة. حصلت على أوراق الاعتماد الصحفية، وبادرت بالاتصال بالقصر الرئاسي، كان الجميع مشغولاً بمناسبة وطنية، وفي الميدان الرئيسي أقيم الاحتفال، والحضور جمهور عريض، ورئيس البلاد المقصود، ونخبة من ضيوفه، وحين جاء دور الرئيس في الحديث لم ينس أن يذكّر في خطبته الثورية بالعداء الأميركي، وتشويه الإعلام الدولي له وللرفاق، وفجأة أشاد بالجزيرة وبفريقها "الموجود بيننا"، فتفاءلت خيراً، وليتني لم أفعل.
في يوم تال تلقيت اتصالاً هاتفياً من شخص يتحدث العربية، لكن طريقته فيها بعض الخشونة، سألني عن مهمتي، سألته عن هويته، أجابني بأنه مستشار الرئيس للشؤون العربية، اتفقنا على اللقاء، وفي الموعد وصل متجهماً، دخلنا في حوار تقليدي وأنا أحاول أن أفهم سره وأكون صورة لشخصيته، ثم انصرفنا على وعد باتصال آخر يحدد فيه موعد اللقاء بالسيدة روزاريو موريلو.
وفي الموعد المحدد مر المستشار علي بسيارته ليصطحبني إلى قصر الرئاسة، انتظرنا في الغرفة المخصصة إلى أن دخلت السيدة موريلو، مطابقة تماماً للأوصاف التي ذكرت لي، شغوفة بالإكسسورات، تتحلى بخواتم في كل أصابعها تقريباً، وقرط كبير لامع، وعقد ضخم يلف عنقها، وترتدي ملابس شبابية مفعمة بالحياة، وهي مثقفة وشاعرة، والأهم أنها زوجة السيد الرئيس.
بترحاب شديد ودافئ دار الحديث، شرحت لها مهمتي، تحمست لها كثيراً، أهديتها حلقة "يحكى أن" عن الرئيس الفنزويلي تشافيز، وعدت بتقديم كل المساعدات الممكنة لتسهيل مهمتنا، سواء فيما يخص لقاء الرئيس، أو أي لقاءات أخرى من جانبهم، ولم تبدِ أي اعتراض على رغبتي -التي أكدت عليها مراراً- في لقاء رموز المعارضة.
استرحت للسيدة، لكن لم أسترح للمستشار، إلى أن علمت أنه وصل البلاد في الثمانينيات مبعوثاً من القذافي الذي كان يوزع أموال بلاده يمنة ويسرة نصرة للثورات وحلماً بالزعامة، رجل مملوء بروح الشك، يسألك في كل صغيرة وكبيرة ولا يثق بأي من ردودك، حتى إنه كان يشك في هويتي، قلت له اتصل بالقناة اسألهم، ادخل على "جوجل" وابحث، اتبع أي طريقة حتى يطمئن بالك، لكن كيف يطمئن باله وهو مثل زعيمه الأخضر حامي حمى الثورات؟
كان يستقبلني متجهماً، وينصرف متجهماً، قلت ربما طبعه البدوي غلب عليه، لكن البدو طيبون، ولم أشعر في سلوكه معي بأنه يحمل هذه الصفة، زارني مرة في فندقي، قضى معي وقتاً طويلاً يقنعني بسذاجة شديدة أن أصرف نظري عن إعداد موضوعي هذا، وأن أنصرف إلى إعداد حلقة مهمة عن السياحة في نيكاراغوا، وعاداتها وتقاليدها ومطبخها الغني بأنواع المأكولات المختلفة، قلت له يا أستاذ محمد ما تقوله مهم، لكن طبيعة برنامجي تختلف تماماً، وأنا واضح فيما طلبت، وقد منحت رخصة رسمية بالعمل بناء على هذا الأساس.
في إحدى المرات تتبعنا بسيارته مثل أي مخبر عربي، دخلنا إلى مطعم شهير، جلسنا في بهوه السفلي، تلقيت اتصالاً منه، سألني أين أنت الآن، أجبته، قال أنا في نفس المطعم وأراك، ثم أبلغني أين يجلس في بهو المطعم العلوي، وطلب أن أصعد إليه، دار نفس الحديث الأحمق، وذات الأسئلة المخابراتية.
لم أكن لأجلس منتظراً موعد الرئيس دون عمل، باشرت بإعداد مواعيد لقاءات التصوير مع بعض الرموز والقيادات من كل الاتجاهات، كما بدأت تصوير حلقة مختلفة عن شاعر وثائر ورجل دين شهير، ويبدو أن تحركاتنا كلها كانت تحت الأنظار.
لماذا يخون الثوار مبادئهم؟ كنت أسأل نفسي مرة هذا السؤال، لماذا يعدون شعوبهم بأمور يتنازلون عنها حين يصلون إلى كرسي الحكم؟ إنهم يلعنون تكميم الأفواه ويطالبون بالحرية، ويتحدثون عن الشفافية، فما إن تصبح السلطة بأيديهم حتى يعتذروا بالظروف غير المناسبة، وبالمؤامرات التي تحاك.
بالتأكيد لا يمكن التعميم، تذكرت ذلك وأنا أزور تمثال أوغستو ساندينو، الذي قاد الثورة وأجبر القوات الأميركية على الانسحاب من البلاد عام ألف وتسعمئة وثلاثة وثلاثين، وبعدها اغتيل برصاص عملاء للولايات المتحدة الأميركية، وبعدها أيضاً، وتحديداً عام واحد وستين، استعاد طالب شاب اسمه كارلوس فونسيكا تاريخ الرمز الوطني ساندينو، وأسس مع اثنين من زملائه جبهة ساندنستا للتحرر الوطني، تلك التي انضم إليها أورتيغا مناضلاً ضد الحكم الديكتاتوري.
كنت على موعد جديد مع السيدة روزاريو موريلو لاستكمال الترتيبات، اتصل بي المستشار الليبي وأبلغني أنه سيمر علي، في الموعد أتى وأبلغني أننا سنذهب إلى فندق آخر لتناول فنجان من القهوة ريثما تتصل به السيدة وتبلغه أنها جاهزة للقاء. ارتبت في الأمر، جلسنا نتحدث، استأذن لإجراء مكالمة هاتفية، ثم عاد، ثم تلقى مكالمة هاتفية وأنا أجلس معه، حمل هاتفه وابتعد ليتحدث، ثم عاد وجلس ليبلغني بصورة حازمة قراراً وطنياً.
"السيد الرئيس اتصل بي الآن وهو يطلب منكم مغادرة البلاد في الحال". لم أفهم الجملة مطلقاً، تساءلت، أعاد مقولته مصحوبة بروح التشفي، سألته ما السبب، قال لا أعرف، لكن عليكم الآن المغادرة، عبثاً حاولت أن أفهم، طلبت لقاءً مع الرئيس دون تصوير، رفض رفضاً قاطعاً وأجابني بحزم لقد قضي الأمر. قام في الحال وطلب أن أصحبه ليعيدني إلى الفندق استعداداً للرحيل.
كان من الصعب استكمال الحوار أو المهمة مع رفاق تحكمهم عقلية المؤامرات الخارجية، والتدخلات الأجنبية، ويجدونها عذراً لتكميم الأفواه والانزعاج غير المبرر من أحاديث صحفية مع قوى المعارضة، التي هي بالضرورة خائنة وعميلة في نظرهم.
قضيت وزملائي الليل ساهرين نفكر في أي حلول ممكنة، فشلت محاولاتي في الاتصال بصديقي مصطفى الذي دبر الموعد، تواصلت مع "الجزيرة" فلم يبد الأستاذ أيمن اهتماماً بالأمر (!!) ، يبدو أن علي تقبل الأمر ، أنا وفريقي في حكم المطرودين، بدأت أبحث بين شركات الطيران عن سبيل الخروج من هذه البلاد، وفي الصباح الباكر كنا في المطار، نقف في صفوف المغادرين ونحن لا نفهم ماذا جرى ولماذا جرى.
لا تتوقف دهشتي كلما تذكرت هذه الحادثة وما تلاها، حيث تواصل مع القصر الرئاسي زميل من قناة "الجزيرة" يعيش في كوبا، ورتب مع المعنيين فيه كل الإجراءات المطلوبة لإجراء حوار مع الرئيس، وبعد أن وصل فعلوا معه ما فعلوه معي. الأطرف من الحادثتين أن السيد المستشار الليبي اتصل بالجزيرة لاحقاً يعاتبهم على تقصيرهم في تغطية ما يجري في نيكاراغوا، وحينها فهمت أن القذافي ليس شخصاً بقدر ما هو حالة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.