الموت.. كما رآه سيد قطب وكما أراه

عدنا يوماً من تشييع شاب من شبابنا، لم يمض على زواجه أكثر من خمسة أشهر، كان مصدر تعجُّبي في الحادث أننا في تلك الفترة عايشنا بمنطقتنا أربع قصص بالشكل نفسه، أربعة شباب يموتون بعد زواجهم بما لا يتعدى خمسة الأشهر، واثنان منهم كان كل واحد منهما الولد الوحيد لأبيه!

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/12 الساعة 03:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/12 الساعة 03:32 بتوقيت غرينتش

ذلك الزاعق الذي يصمُّ آذاننا يوماً بعد يوم ويأبى إلا أن يُسمعنا صوته العالي حتى وإن لم نرغب في ذلك، إنه الحقيقة الكبرى التي نتعامل معها كأننا ننكرها ولا نؤمن بها.

وعلى الرغم من أن الموت يقرّبنا من محبوبنا العظيم (الله)، الذي أيقنا بعد طول عمر وادّكار أنه لا يستحق الحب بصدق إلا هو- فإنه ورغم ذلك نكره الموت.

وكيف لنا أن نحبه، وهو يقربنا من محاسبة الحبيب وعقابه، قبل ما يقربنا من عطائه ومنه؟!

عدنا يوماً من تشييع شاب من شبابنا، لم يمض على زواجه أكثر من خمسة أشهر، كان مصدر تعجُّبي في الحادث أننا في تلك الفترة عايشنا بمنطقتنا أربع قصص بالشكل نفسه، أربعة شباب يموتون بعد زواجهم بما لا يتعدى خمسة الأشهر، واثنان منهم كان كل واحد منهما الولد الوحيد لأبيه!

إنه الموت.. الذي يأبى إلا أن يُسمعنا صوته عالياً صاخباً على الرغم من أننا نكاد نضع أصابعنا في آذاننا؛ رغبةً في عدم السماع.

إنه الموت الذي رآه الأستاذ سيد قطب قوةً ضئيلةً أمام قوى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة، وأراه عكس ما قال.

يقول في رسالته لأخته التي طُبعت بعد ذلك في كتيب صغير وسميت "أفراح الروح": "إن فكرة الموت ما تزال تُخيَّل لكِ، فتتصورينه في كل مكان، ووراء كل شيء وتحسبينه قوة طاغية تُظل الحياة والأحياء، وترين الحياة بجانبه ضئيلة واجفة مذعورة.

إنني أنظر اللحظة فلا أراه إلا قوة ضئيلة حسيرة بجانب قوى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة، وما يكاد يصنع شيئاً إلا أن يلتقط الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!

مد الحياة الزاخر هو ذا يعج من حولي! كل شيء إلى نماء وتدفق وازدهار، الأمهات تحمل وتضع، الناس والحيوان سواء، الطيور والأسماك والحشرات تدفع بالبيض المتفتح عن أحياء وحياة، الأرض تتفجر بالنبت المتفتح عن أزهار وثمار، السماء تتدفق بالمطر، والبحار تعج بالأمواج. كل شيء ينمو على هذه الأرض ويزداد!

بين الحين والحين، يندفع الموت فينهش نهشة ويمضي، أو يقبع حتى يلتقط بعض الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات! والحياة ماضية في طريقها، حية متدفقة فوارة، لا تكاد تحس بالموت أو تراه!".

لقد رأى الرجل الموت بهذه الضآلة في هذه اللحظة التي كتب فيها رسالته إلى أخته، ولعل الدافع لهذه الرؤية هو ما كان عليه حاله، فقد كان الرجل عند كتابة هذه الرسالة مبعوثاً إلى الولايات المتحدة في رحلة علمية، وربما كانت الحياة الغربية بصخبها وإبهارها وحيويتها هي الدافعة لأن يرى الموت بجانبها على هذا النحو.

أما أنا فأراه: "قوة طاغية هائلة، هي محور هذه الحياة، وأراه البؤرة التي تشير من بعيد فيتدافع إليه الجميع أفراداً وجماعات، إلى أن تأتي في لحظة حاسمة فتدعو الجميع ليأتوا لا يتخلف منهم أحد، عندما ينفخ النافخ في صُوره.

إنه المفترس الذي يتربص بنا فينهش من هنا وهناك، فلا نكاد نحيى حياتنا إلا وكل همنا أن نتحاشى افتراسه ونؤخر لقاءه.

إنه ذلك الذي يُنهي آمال الآملين، ويسحق بناءات المعمّرين، ويعرقل سير السائرين اللاهثين.

إنني أرى الحياة إلى نماء، ولكنني أراها إلى نماء حتى تستوي وتنضج فتحلو في نظر الموت فيفترسها، والأمهات والحيوانات عندما تضع فإنها تضع من أجل أن يموت الذي تضعه.

إن الموت لا ينهش الساقط من فتات الحياة دائماً، وإنما يفترس في كثير من الأحيان أثمن ما في هذه الحياة وأنضجه، ولا يترك للحياة إلا فتاتها.

إنه الموت، الحقيقة الكبرى، والقادم اللازم، والمحتوم الذي نكرهه ونخافه".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد