كانت وقفة عيد الأضحى في السنة الماضية حينما وردتني مكالمة من أخي، خِلتُها مكالمةً معايدة، ولكنّه خلالها تنحنحَ وقال إن هناك نبأً سيّئاً.. خير! أخبرني أن والدي منذ يومين يرقُد في الإنعاش ذي الإمكانيات المحدودة وهو الوحيد المتاح في الغوطة المحاصرة شرقيّ دمشق.
أغلقت المكالمة، كلّمت أحد أصدقائي وهو طبيبٌ مقيم في قسم العناية، وبعد أن وصّف حالة والدي، أخبرني أنها متأزمة لدرجة أنه سيكون سيئاً لو بقي على قيد الحياة، ويكأنه أراد أن يُلقي عليَّ خبر حتف والدي مبكراً.
ثم بعد ستة أيام كلمني أحد أساتذتي السابقين ليعزيني بوفاة والدي.
صُعقت لوهلة، ثم سألته إن كان متأكداً كوني لم أعلم بعد.
فقال: صلينا عليه ودفناه صباحاً.
علمت بعدها أن عائلتي حاولت أن تؤخّر وصول نبأ وفاته لغايةٍ لست أعلمها، لقد توفي دون أن ألقاه لآخر مرة، دون أن أسمع صوته منذ أمد بعيد قبيل وفاته، دون أن أمسك يده على فراشه الأخير، دون أن أقبّل تجاعيد وجهه التي اشتقتها، ودون أن أشم رائحة دخان سجائره في ثيابه.
هذا حالنا نحن الهاربين، لم نستطِع يوماً قول كلمة وداعاً، لم نتمكّن يوماً من كسب العناق الأخير، وهذا هو إثمنا يوم ركبنا البر والبحر والجو وهربنا بظننا نحو المستقبل، فأي مستقبل يا سيدي ما لم تكن لتراه؟
وأي إنجاز عليَّ تحقيقه في هذه البقعة الباردة حينما لن تكون هناك يا معلمي لترمقه بنظرتك الساهبة دون أن تُثني عليه؟
أي نجاح وأي طبٍّ لن يستطيع أن يدفع علقات الدم المتجمدة في شرايينك؟
أي كلام أيها الرجل الكبير سأقوله في حضرة غيابك؟ ما سينفعك وأنا الذي جبنت في الطريق وهو الشيء الذي لم تعلمني إياه من صلابتك وجلادتك!
أيا صاحب الجبين المقطّب، كيف لي أن أكفّر عن آثامي في غيابك؟ كيف لي أن أطلب العفو عن ليالٍ بارداتٍ قضيتها على بعد آلاف الأميال عنك؟
ها أنت ذا تحت التراب هناك في الوطن وها أنا ذا أعوم هذا العالم وأى جنونه وحماقته، كل دروس الحياة التي تعلمتها منك، رغباً أو رهباً، بقيت ماثلة أمامي اليوم، أذكرك كل يوم، أذكر عاداتك وما تحبّ وما تكره.
ربّما -يا سيدي- لم نكُن عظيمين كابنٍ وأب، ولكني متأكد أنني أحملك في داخلي، أحمل إنسانيتك في قلبي، وأحمل ذاك المقاتل فيك في أعماقي، أنت معلمي الأول في هذه الحياة الذي علمتني بالحزم والحب، علمتني وقمعتني وأدبتني، جمعت -يا سيدي- كل المتناقضات في شخصك، فتارة ترعد كالإعصار ثم تركد كمياه النهر.
هكذا أنت يا معلمي، فهلّا ترضى عن ابنك الذي غاب مرغماً بظنّه باحثاً عن المستقبل!
أكتب لك -يا سيدي- اليوم في المرة الأولى التي أمسك فيها القلم منذ شهور، فهذا العالم الأحمق الذي نعيشه بات أكثر إسفافاً وأكثر جنوناً، لدرجة أنّه يصعب على أي عاقلٍ وصف ترهاته التي تعصف في جوانبه وخصوصاً في عالمنا العربي.
عالمنا العربي الذي قضيتَ أينع سنيّ عمرك تحارب على جبهاته المُباعة مسبقاً، عالمنا الذي يُهجّر ويقتل ويسلب ويحرق لتبقى تماثيل القادة والملوك فوق ضريح الوطن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.