عن مقهى “التل العليا” الطرابلسي

فسيفساء الكراسي تختصر خلفيات الرواد، أصفر، أخضر، أزرق، وأحمر على طاولة واحدة، للدلالة على احتضان المقهى لثقافات متنوعة بفئات أفرادها المختلفة: العامل الكادح، موظف الدولة والقطاع الخاص، رجل الأمن، الطبيب الجراح، المحامي.. طالب العلم الذي يزورها موسمياً بغرض المذاكرة، والعاشق الهائم الذي يحوّل صفاء جلسته إلى قصيدة غزلية تحاكي جمال الحبيبة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/20 الساعة 05:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/20 الساعة 05:28 بتوقيت غرينتش

ضربات خفيفة متكررة بملقط الاستالس على تنكة النرجيلة، من دون أي عبارات، كفيلة بأن يدرك رامي هدف "القرقعات" ومقصدها، علمته السنوات العشر التي أمضاها هنا لغة الأصوات، وهو الذي فاته تعلّم أي لغة على مقاعد الدراسة.

يتلقى ذبذبات الصوت، يكيّف أذنيه مع وجهتها، فيدرك أن مصدر الصوت الطاولة الثانية على يمين شجرة الصنوبر، أو الرابعة لناحية المصلى، أو تلك التي يداوم أساتذة الجامعة اللبنانية على الجلوس عليها منذ سنوات طويلة تسبق عمله في المقهى.

عندما يتقدم الصمت وتتراجع القرقعات، يجول رامي بين الطاولات منادياً "نارة يا حلوين"، فتستيقظ أذهان شاردة في أمورها الحياتية، ووعي أبحر في عوالم الأربعمية والليخة، تتكاثر النظرات، تصطف كطالبي لجوء أمام أعين رامي: الكل يريد "نارة"، يشمّر حداد السيارات النهاري عن ثقافته الإنكليزية ويقول: i am very busy call me back، موحياً أنه نادل مثقف، يتقن الإنكليزية إلى جانب كونه علامة متمرساً في لغة "النارة" وشجونها.

يقول زوار المقهى: إن رامي تلقى الإنكليزية في صغره، ويجزم العارفون بالمقهى وتفاصيله أنها "ثقافة مقهى" راكمها رامي وتعلمها من خلال احتكاكه اليومي مع أشخاص من مشارب وفئات وثقافات متعددة تدخل مقهى التل العليا التاريخي المتكئ على هضبة صغيرة مقابلة لساحة التل في طرابلس.

مداخل المقهى مسارات طويلة تدخلك عوالم حيوات جديدة، بوابات ثلاث لكل منها طقوسها الخاصة، وإن كان قاسمها المشترك بنيتها التقليدية القديمة.

بوابة حديدية عائمة على حوادث ومشاهد عمرها من عمر المقهى، وأخرى تظللها الأشجار المخضوضرة على الدوام كأنها ربيع لا ينتهي، وثالثة خاصة بقاعة العائلات التي ترسم مساحتها الواسعة البسمة على وجوه الأطفال.

لا ديكورات حديثة هنا، ولا تصاميم هندسية استثنائية ومودرن، طاولات متناثرة كحبات الأرز بطريقة عفوية على قاعات المقهى الأربع، فالتنظيم ليس المبتغى وإنما سكينة الجلسة هي الطبق الرئيسي.

فسيفساء الكراسي تختصر خلفيات الرواد، أصفر، أخضر، أزرق، وأحمر على طاولة واحدة، للدلالة على احتضان المقهى لثقافات متنوعة بفئات أفرادها المختلفة: العامل الكادح، موظف الدولة والقطاع الخاص، رجل الأمن، الطبيب الجراح، المحامي.. طالب العلم الذي يزورها موسمياً بغرض المذاكرة، والعاشق الهائم الذي يحوّل صفاء جلسته إلى قصيدة غزلية تحاكي جمال الحبيبة.

كلّ منهم يجد ضالته في هذا المكان، هويته التي يحاول تعزيزها، أو يسعى إلى المحافظة عليها في ظل "طحشة" الهويات المعولمة على المدينة الجديدة بمقاهيها الحديثة، هوية لا يزال يكتب فصولها حتى اليوم صوت أم كلثوم حين يصدح في أرجاء المقهى، لا يقطعه سوى صوت الحساسين والبلابل التي احتجزت حريتها في أقفاص موزعة على القاعات الأربع لزوم تهيئة الجو للزبائن وإصباغ المزيد من الشاعرية على الجلسة.

وهنا أيضاً لا مشروبات معقدة بمكونات تشبه الفلسفة، بساطة الطلب في بساطة من يحضره لك: فنجان قهوة، كوب شاي، مشروب غازي أو شبه طبيعي، وأقصى الطلب "فنجان نسكافيه"، مع نفس نرجيلة المعسل أو العجمي.

"مسجد التل" الذي يجاور المقهى لم يمنع صاحبها من إنشاء مصلى صغير في وسطها، ما أن ينهي المؤذن في المسجد نداء الصلاة حتى تنزح فئة قليلة من الناس عن طاولاتها تاركةً ديوان الأربعمية ونفس النرجيلة؛ لتؤدي فريضة الصلاة.

يخلع رواد المقهى تعب النهار وضجيجه، هموم الحياة ومشاكلها؛ ليجلس كل منهم في بيئة يرتاح في الانتماء إليها، فيصيّرها هوية له، انتماء يبعده عن حلقات النفاق اليومية التي تعترضه في عمله، من زحمة السيارات وفوضى المخالفات والبسطات التي حولت شوارع المدينة إلى لعنة.

على هذه التلة الوديعة يدور صباح كل يوم نقاش خفيف الظل عميق المعنى بين المقهى وجاره في المدى البعيد ذاك البحر المرمي خلف المباني الشاهقة:
البحر: أتاني أهل مدينتي منذ الفجر يشكون ضيق العيش وندرة الخيارات، وكعادتهم رموا شباك همومهم في داخلي وانتشروا في الأرض. ماذا عنك أنت؟

المقهى: دموع كبارهم تسبق خطواتهم، هؤلاء المتقاعدون يشكون متسع الوقت وفراغ الأيام، وزاد من دموعهم سلسلة أقرها المجلس النيابي قالوا إنها أجحفتهم بدل إنصافهم..
البحر: ابقِ هكذا مرآتهم.
المقهى: لتحافظ على مهامك تجاههم: جواز سفر نحو راحة مفقودة.

هي بيئة صامدة وسط متغيرات كثيرة، كلاسيكية لكنها غنية براحة يفقدها الحداثيون في جلساتهم.

بيئة متصالحة مع نفسها، طبيعية غير متكلفة، تلامس العولمة من دون أن تذوب فيها، فتحافظ على جماليتها وعذريتها، يكفي عابر السبيل أن ينظر إلى وجوه الناس الباسمة رغم وجعها الحياتي؛ ليلحظ عفويتها وصدقها، ويكفي زائر المقهى أن يجعل من رائحة "عطر الليل" جواز سفر إلى حياة يصبو إليها؛ ليردد مع محمود درويش "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد