جلسَ الشيخُ بقربِ دكانهِ الذي يوازيه بالعمر، ومن خلال تلك النافذةِ الضيقة رأيتُ كل المعاني التي تحملها الحياة بينَ جنباتها، بشيءٍ من التهكمِ بدأتُ عدَّ الخطوات التي تفصلني عن الشيخ -تقديرياً- وتخيلتُ أني لو مشيتها لن أصلَ إليه إلا وعمري قد قاربَ عمرهُ ووازاه، فالحياة ليست إلا خطواتنا عبر الزمن من نقطةٍ لأخرى، بكل أثقالها وهدأتها أيضاً.
تلوتُ في مخيلتي صلواتي الخاصة، وهدأتُ أروي في نفسي قصة الحياة: في نقطة ما كان هذا الشيخ جالساً مكاني، يناظرُ المارينَ كما أفعل أنا الآنَ، وبعينيه المتعبتينِ -الآن- رأى كل نقاط الحياةِ تخطو أمامه، رأى كل الناسِ بصورتهم الآنية في هذه الحياة، وقارنَ المسافاتِ التي تفصله معها جميعاً، وحدثَ نفسهَ عن لغةِ الموتِ أو ربما ما انتبهَ لكل هذا؛ لتدور عجلة الحياة وتجعله نقطةً منظورة بالنسبة لي، ونقطة تجلسُ على حواف النهاية تمشي الهوينا نحو النهاية؛ لأن ما بقي من أيامهِ لا يعادل الواحدَ بالألف مما مضى منها، وارتجفتُ متخيلاً أنني سأكون أنا عوضاً عنه على ذاكَ الكرسي، وعلى قارعةِ الحياة، أناظرُ الموتَ وأشاطرهُ الدهشةَ والهدوء قبل الانقضاض.
لا يخيفني الموتُ أبداً، بل يخيفني ويرتعشُ قلبي فزعاً من ذاكَ الجلوسِ على شرفةِ الموتِ، أراقب قدومهُ، حينها سيمتلئُ القلب بألف خاطرٍ لاهجٍ، وألف كلامٍ سأندم على عدم قوله في يومٍ مضى، سأحتاجُ عمراً آخرَ لأفعل وأتحدث وأنجز، حينها سيمتلئ كأس القلبِ باللوم قهراً ومرارةً وحنيناً ولربما ندماً؛ لأنني أقف منتظراً عناقَ الموت، منتظراً العبورَ والمرور إلى خلودِ الحياة إما نعيماً أو جحيماً! دونَ إدراكٍ أو إنهاءٍ بالتمام لغايتي في الوجود.
هذا ما أدعوهُ العناق المنتظر للموت، فماذا عن العناق الممزوجِ بالفجأةِ واللانتظار؟
الموتُ بصيغتهِ الأخرى خبرٌ يحمل الدهشةَ والرعشةَ في آنٍ معاً، فقد تقف نوافذه بكليتها مفتحةً على مصراعيها أمامَ أعيننا دون أن نلحظها، أو أن نشعر بهمسِ النسيم الأخير الذي تحمله فوق قلوبنا، فتخطفنا بدهشةٍ وعناقٍ حميمي دونَ أن ندركَ أننا ننظرَ الموت، وأنه يخطفنا من عتمةِ الحضور.
ما الحل بين عناقٍ منتظر واختطاف داهش؟
عبر النافذةِ أنظرُ والشيخُ ارتمى من كرسيهِ ليرتطمَ وجههُ على الأرض؛ ليغدو في حلقةِ العبور وفي عوالم لن يدركها ضعفي الآن، ما عدتُ قادراً على الحراكِ أو حتى التنفس بحرية، جالَ في خاطري: لننقذَ أنفسنا من فجائية المشهدِ – الموت – أو انتظاره البارد علينا أن نتهيأ له، ونستعد بكل جوارحنا وكليتنا، فنجر قلوبنا بهيئتها وطبيعتها وكل ما امتلأت به إلى حدود النافذة المنتظرة، تلك النافذة التي سقطَ من خلالها الشيخ الجليس، والتي لا مفرَّ من العبور من خلالها على اختلافِ النقطةِ العمرية التي نحن في تكوينها، وبهذا نوقظُ القلبَ ونحث حضورهُ على البعثِ والحياةِ بالمفهوم الأصح له، ونعالج فجوة العمل التي تجبرنا على الندم عند المشارف الأخيرةِ للطريق التي نحن في صدد مسيرها، وينمو في قلبنا حنين اللقاء والوقوف بينَ يديه -عز وجل- عوضاً عن حنينا في الماضي إلى فعل أو قولٍ لنا لم يتمّ.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.