التدمير التعليمي الممنهج للناشِئة التونسية في المدارس العمومية

كما أوردت أن هذه الأزمة التعليمية العميقة تعود إلى ما سُمِّيَ "إصلاح محمد الشرفي"، مروراً بإرساء التعليم الأساسي سنة 1991 حتى إصلاح 2002 بشعار "مدرسة النجاح لا مدرسة الفشل"، كما أن المدرسة التونسية أضحت في العقود الأخيرة حقل تجارب لمنظومات تربوية مستوردة ومسقطة، كمنظومة الكفايات التي أُجبرت المدرسة الأساسية على تطبيقها دون مراعاة لشروطها ومتطلباتها ووسائلها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/05 الساعة 03:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/05 الساعة 03:30 بتوقيت غرينتش

في إطار جني الخراب، الذي يتجلى في أكثر من مستوى، إلى أن صُنفت في سُلم الفضيحة، وفي فاجعة فاقت كل التوقعات بسلك التعليم الأساسي؛ إذ أُذيع في برنامج تلفزي تونسي تبثه إحدى القنوات الخاصة، حيث دخل مقدم البرنامج الإعلامي بالصدفة إلى أحد أقسام السنة الرابعة للتصوير، بعد الحصول على ترخيص من إدارة المدرسة، غير أن "المُعلم النائب" الذي كان موجوداً بالقسم أخفى وجهه ورفض الظهور في البرنامج، وعندما نظر معدّ البرنامج إلى السبورة اكتشف أن المُعلم كتب جملة بالفرنسية فيها أخطاء فادحة "Les enfant prépare ses valise"، فسأله: "هل تعلم أن الجملة فيها أخطاء؟"، ارتبك المعلم وأجابه: "أنا فقط أريد أن أدرسهم نطق الحروف".

وعلى وقع الصدمة، أُجبر معدّ البرنامج على إصلاح ما كتبه المعلم مع التفسير اللغوي له لمقتضيات التصريف في اللغة الفرنسية (علماً أن اللغة الفرنسية هي اللغة الثانية المعتمدة في التعليم التونسي بجميع مستوياته).

الصورة: مقدم برنامج "يوميات مواطن" يصلح الأخطاء التي كتبها المعلم

جملة بسيطة لخَّصت صيرورة تدمير تعليم عمومي، بنتْه دولة الاستقلال بالدم والتضحيات؛ لأنها كانت متيقنة من أهميته القصوى من أجل النهضة العلمية والتقنية والصناعية، كما أن العائلات التونسية تولي لتعليم أبنائها شأناً كبيراً من الناحية المادية والإحاطة النفسية والتعليمية.

هذه الفاجعة لم تكن وليدة اللحظة؛ بل هي مسار تام الدلالات على تخلي الدولة عن أبعادها التعليمية والصحية والمعيشية منذ التسعينيات فقد وُضع مؤشر جودة التعليم العالمي لسنة 2017، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، تونس بالمركز الـ84 عالمياً والسابع عربياً، في كل من المستوى الجامعي والمستوى الابتدائي، وتأتي قبلها الكثير من البلدان التي كانت سابقاً خلفها في الثمانينيات والتسعينيات، ومنها دول إفريقية كانت تعاني الفقر والمجاعة والجهل والحروب وانعدام البنية التحتية منذ عقدين فقط.

فقد لوحظ أن التغيير الأكبر لمنحى التعليم عربياً كان من نصيب تونس، التي كانت تحتل المركز الأول عربياً والـ30 عالمياً في تقرير 2010-2011، لتتراجع في المقابل بـ54 مركزاً عالمياً في السنوات الست الماضية، وتتدحرج إلى هذا المركز المتأخر بعد عقود ذهبية من التفوق العربي والدولي، وتكون بذلك تونس قد سجلت أكبر تراجع في مستوى تعليمها بتاريخها.

ففي عودة للمسار التاريخي لمنظومة التعليم التونسية، وكمدخل عام للنقاش في هذا الموضوع الاستراتيجي، فإن دولة الاستقلال راهنت كثيراً على الوسائل المادية والمعنوية في نشر التعليم بالبلاد بالكامل، خاصة في المناطق الداخلية، وقد أبدى آنذاك التونسيون تعاوناً لا نظير له مع الدولة، وتم إقرار إجبارية التعليم ومجانيته للجنسين، كما حقق قانون 1958 نتائج هامة؛ إذ انتشر التعليم في أصقاع البلاد بقطع النظر عن سنٍّ أو جنس المتمدرس.

إلا أن الخارطة التربوية بقيت محدودة، كما أن ظاهرة الانقطاع المدرسي في مختلف مراحل التعليم ما زالت ذات نسبة تعتبر مرتفعة، وتتالت عقب هذا القانون محاولات إصلاحية جزئية في 1963 و1969 و1982، وآخرها قانون 1991 الذي ارتكز على الفعل التربوي؛ أي إن الدولة لها أهداف محددة تسعى لتحقيقها مع المحافظة على الأهداف الرئيسية التي تصبو الدولة لتحقيقها، كتغطية الخارطة التربوية للجهات كافة ومقاومة الانقطاع المدرسي والتخفيض من نسبة الأمية، ومن مكاسب قانون 1991 أن حقق بعض المكاسب، منها تعريب التعليم والعلوم وارتفاع نسبة التمدرس وتقلص نسبة الرسوب والانقطاع عن الدراسة.

وقد حقق قانون 1991 فشلاً ذريعاً في أول اختبار له بعد 9 سنوات على اعتبار ضعف المؤسسة التربوية وسيطرة المنحة الكمية على العملية التعلُّمية التعليمية وغياب الاختصاص والتكوين مع غياب الثقافة التقييمية للتجربة السابقة، ثم صدر في 2002 قانون إصلاحي جديد يرتكز فعله التربوي على منظومة الكفايات الأساسية التي تتكون من الأبعاد التالية: تكوين عقول مفكرة بدل حشو الأدمغة، والتحكم في التكنولوجيا الجديدة، والتفاعل الايجابي مع المحيط، وإدخال مواصفات الاحتراف على المنظومة التربوية.

كما أوردت أن هذه الأزمة التعليمية العميقة تعود إلى ما سُمِّيَ "إصلاح محمد الشرفي"، مروراً بإرساء التعليم الأساسي سنة 1991 حتى إصلاح 2002 بشعار "مدرسة النجاح لا مدرسة الفشل"، كما أن المدرسة التونسية أضحت في العقود الأخيرة حقل تجارب لمنظومات تربوية مستوردة ومسقطة، كمنظومة الكفايات التي أُجبرت المدرسة الأساسية على تطبيقها دون مراعاة لشروطها ومتطلباتها ووسائلها.

كما أن فشل النظام الحالي، الذي راهن على الإنجاح من مستوى إلى آخر دون مناظرات هامة والارتقاء الآلي، ما أنتج أعداداً هائلة من المتخرجين في الجامعات دون أي مستوى علمي حقيقي؛ ما أدى حتماً إلى اختلال العلاقة الجدلية بين المدرسة والاقتصاد، فغياب الخطوط العريضة وتشعباتها في هياكل وزارة التربية مع تراجع تكوين المعلمين والأساتذة تحت ضغط الاحتجاجات والنقابات لأجل تشغيل المعطلين عن العمل من أصحاب الشهادات على حساب التكوين والتأهيل.

وحتى نكون على نهج الثورة التعليمية في تونس، فالتعليم الجديد عليه أن يتبنى فلسفة تربوية جديدة، عبر تحديد أهدافه في كل مرحلة، وإعادة الاعتبار لمدارس التكوين الحرفي والمهني، علاوة على ترك مَلَكة الطفل تفكر وتنتج، وإحياء مدارس ترشيح المعلمين، وتكوين الأساتذة، مع التشديد على مبدأ تكافؤ الفرص بين مختلف الطبقات والجنسين، وتحسين الأوضاع المعيشية للإطار التربوي؛ حتى تصبح المدرسة فضاء لحياة مجتمع الغد المنتج والفاعل.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد