تاريخنا الإسلامي: تراث يُدْرس أم مقدّس لا يُلْمس؟

ما زلنا أمة بعيدة كل البعد عن التعلم من أخطاء أجدادها ومؤسسيها أو الاستفادة من خبراتهم وتجاربهم. الصحابة رضوان الله عليهم وآل بيت النبي بشر، لم يكونوا ولم يدّعوا يوماً أنهم معصومون. اجتهدوا في الدين والفقه واجتهدوا أيضاً في السياسة والدنيا وتسيير أمور الدولة والرعية والرأي العام أو ما كان يسمى "سواداً أعظم" و"عموم المسلمين".

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/05 الساعة 03:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/05 الساعة 03:22 بتوقيت غرينتش

عندما كنت في سن الحادية عشرة، كنت حديث العهد بالتخرج في المدرسة وبداية الرحلة بالمدرسة الإعدادية؛ ومن ثم مرحلة اكتشاف ما هو جديد وغريب بالنسبة لطفل في عمري.

أكرمني الله آنذاك بأن وضع في طريقي أستاذاً أُعجب بي، ولا أدّعي هنا أني كنت نابغة بين زملائي، لكن كان أن قال لي إنه رأى فيَّ ما لم يره في أقراني. واتخذني منذ ذاك اليوم ولداً له يحدثني -رغم حداثة سنّي وقلة علمي- عن كل شاردة وواردة في هذه الدنيا وتاريخ الشعوب والدول.

وصادف يوماً أن حدثني عن فتنة كبرى أوقعت بين المسلمين إبان وفاة الرسول الأكرم فسالت فيها دماء وقطعت فيها رقاب. فدخلت أسماء عديدة ذاكرتي مثل علي وعثمان ومعاوية ويزيد والحسن والحسين وغيرهم من الشخصيات البارزة في ذلك العهد، رضي الله عن صحب النبي وآل بيته.

ومرّت الأيام وكبرت حتى وقع بين يدي كتاب شائق وقيّم للمفكر التونسي العظيم هشام جعيط، وكان عنوانه "الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر". فقرأته بعمق ونهم كبيرين، وأكد الكتاب كل حرف حدثني به أستاذي في صغري.

ما جعلني أكتب هذا النص، هو تدوينة بسيطة كتبتها منذ أيام في مدونة مشهورة عن المصالحة الفلسطينية؛ إذ استعملت تشبيهاً عاديّاً وعابراً في سياق دقيق، فقلت "دحلان معاوية العصر"، وكان القصد أن أصف شدة دهاء المفصول من حركة "فتح" محمد دحلان وحنكته السياسية؛ إذ من المعلوم أنه في العهد الأول للإسلام برز داهيتان سياسيتان؛ أحدهما معاوية بن أبي سفيان، والآخر عمرو بن العاص، وكان أن اجتمع الاثنان في حلف واحد أيام الفتنة فاستطاعا قلب الموازين بذكائهما ودهائهماـ وهذا أمر مشروع من الجانب السياسي والتكتيكي في الصراعات الداخلية للأمم والدول.

ورغم أن القصد كان واضحاً، فإن جمهور القراء والمارين على الصفحة، تسلّموني شتماً ولعناً وسبّاً لدرجة أذهلتني وصدمتني؛ إذ اكتشفت كمّاً هائلاً من التعصب وسهولة المرور إلى مربع العنف اللفظي واللعن. ألم يقل النبي صل الله عليه وسلم: "ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء"؟

وهنا مربط الفرس ومكمن الداء، لطالما عانى المسلمون عقدة التراث والتاريخ والمقدس، فصارت شخصيات التراث الإسلامي آلهة تُعبد من دون الله وأصناماً يصعب الخوض في تاريخها ولا مناقشة أفعالها ولا حتى تحليل أفكارها، وأخذ المسلمون في التعامل معها كمسلّمات؛ ومن ثم كخطوط حمراء لا يحق لأي امرئ كان -ولو كان عالماً- أن يخوض فيها أو يحاول البحث فيها، وقِس على ذلك ما حدث من هجوم على العديد ممن حاولوا نبش الغبار عن هذا التراث، كالدكتور علي شريعتي رحمه الله، أو عدنان إبراهيم وما يمثله من ظاهرة اليوم في الوسط الإسلامي الحديث.

ما زلنا أمة بعيدة كل البعد عن التعلم من أخطاء أجدادها ومؤسسيها أو الاستفادة من خبراتهم وتجاربهم. الصحابة رضوان الله عليهم وآل بيت النبي بشر، لم يكونوا ولم يدّعوا يوماً أنهم معصومون. اجتهدوا في الدين والفقه واجتهدوا أيضاً في السياسة والدنيا وتسيير أمور الدولة والرعية والرأي العام أو ما كان يسمى "سواداً أعظم" و"عموم المسلمين".

المجد لكل الباحثين عن الحق، المجد لكل نابش لغبار التاريخ، المجد لكل من احتمل الشتم واللعن في سبيل علم يقصده وينال من مائه الذي لا ينضب، والمجد لله الذي علمنا من لدنه، إنه كان عليماً حكيماً.

وأختم بقول ابن خلدون: "التاريخ فن.. يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم وحضاراتهم والأنبياء في سِيَرهم والملوك في دولهم وسيرتهم حتى تتم فائدة الاقتداء في أحوال الدين والدنيا".
والله من وراء القصد.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد