مع بداية عهد التنوير ونشوء الليبرالية وتطورها عبر الزمن، خاصة في القرون الأخيرة حتى وصلت لنا بمفهومها الحديث، أمضى العالم الغربي سنوات عديدة في صراع مستمر حول تحديد أيهما أهم حرية الفرد أم حرية المجتمع؟
استمر الصراع طويلاً بين فلاسفة الغرب، فمنهم مَن رأى أن حرية الفرد هي الأهم، حتى لو كانت على حساب المجتمع؛ نظراً لأن الفرد هو العنصر الأساسي في تكوين المجتمع، بينما ذهب البعض الآخر إلى القول بأن حرية المجتمع هي الأهم؛ لأن حرية الفرد قد تفسد المجتمع ككل، وهو ما ينعكس سلباً على الأفراد، وأن الفرد يتنازل عن جزء من حريته بما يعرف بالعقد الاجتماعي، الذي يمنح الفرد من خلاله الدولة الحق في وضع القوانين التي تخدم الصالح العام، مقابل تنازل الأفراد عن بعض من حريتهم.
لكن هذا الرأي لاقى انتقاداً واسعاً من قِبل عدد من الفلاسفة، واتهموا تغليب مصلحة المجتمع بأنها وسيلة لفرض الوصاية وتقييد حرية الفرد، فمثلاً يمكن للدولة تقييد حرية الرأي والفكر بمنع الحديث في قضية بعينها، بحجة أنها تسبب بلبلة وتضر بالرأي العام، على الجانب الآخر إذا ما غلّبنا حرية الفرد على حرية المجتمع، سنجد أنه من الممكن أن يقوم شخص ما بنشر معلومات تضر بالدولة أو بالمجتمع، وتحرض على البلبلة والعنف، وهو ما وضع الرأي العام لسنوات طويلة في معضلة حقيقية.
هذه المعضلة الطويلة التي لا تستطيع ضمان نتائجها، وضع حداً لها المفكر والفيلسوف الإنكليزي العبقري جون ستيوارت ميل "1806 – 1973" الذي بنى نظريته في كتاب "عن الحرية – On liberty"، التي لخَّصها في مقولته الشهيرة: "إن كل ما يقيد المنافسة الحرة هو الشر المطلق، وكل ما يطلقها هو الخير العميم".
لقد رأى جون ستيوارت أن حرية الفرد هي الأهم بشرط ألا تطغى على حرية المجتمع، ولكي نتحدث عن كيفية تنفيذ ذلك بصورة راقية تليق بالمجتمعات المتحضرة التي تحترم كلا الحقين، دعونا نضرب مثالاً بسيطاً متعلقاً بالمرور، ثم نضرب مثالاً آخر أكثرً تعقيدا متعلقاً بشرب الخمر:
المثال الأول "المرور": إذا ما افترضنا أن هناك شخصاً يمتلك سيارة، فمن حقه أن يسير بها وقتما شاء في المكان الذي يرغب به، ومن حقه أيضاً أن يستمع لما يحلو له من موسيقى أو أدعية أو راديو.. إلخ؛ لأن كل هذا يندرج تحت بند الحرية الشخصية، لكن ماذا إذا ما قرر الشخص أن يقف في منتصف الطريق ويعيق حركة المرور؟! أو أن يقوم برفع صوت التسجيل في ساعات متأخرة من الليل بجوار منازل الآخرين؟! هنا يبدأ الشخص في الخروج من دائرة الحرية الشخصية إلى دائرة التعدي على حرية المجتمع، أعود هنا وأشدد على أن حرية الفرد في غاية الأهمية بشرط ألا تؤثر على حرية المجتمع بصورة مباشرة، فلا أحد يستطيع أن يقف بسيارته في منتصف الطريق مدعياً أنها حرية شخصية؛ نظراً لأن حريته في الفعل تؤثر على حرية المجتمع، وهو ما يعطي الحق للدولة بمعاقبته، سواء بسحب رخصة القيادة منه أو تغريمه على فعله.
أعتقد أن جميعنا متفق على هذه الحالة؛ لذلك دعونا نأخذ مثالاً أكثر تعقيداً هو "شرب الخمر": إذا ما افترضنا أن فلاناً يشرب الخمر، فإن شربه للخمر لن يضر المجتمع بصورة مباشرة، ولكن من الممكن أن يضر المجتمع بصورة غير مباشرة، خاصة إذا ما أفرط الشخص في الشرب، وقد يتسبب في أضرار عديدة تمس المجتمع مثل:
– حوادث الطرق إذا ما أفرط في تناول الخمور.
– عدم المسؤولية عن أفعاله وتصرفاته ومخالفة القوانين تحت تأثير المسكرات.
– إذا ما أدمن الشخص على شرب الخمور فربما يمرض أو يفقد القدرة على التركيز والعمل ويصبح عالة على المجتمع.
هذه الفرضية تضعنا أمام معضلة حقيقية، فإما أن نمنع الخمور بحجة أن لها أضراراً سيئة، ولكننا في هذه الحالة سنضطر إلى منع الجميع منها، حتى من يتناولون الخمور بمستويات معتدلة، أنا أثق أن هذا الرأي سيلقى قبولاً لدى الأغلبية العظمى في عالمنا العربي، لأسباب دينية ومجتمعية، ولكن الأزمة ليست في منع الخمور كخمور، ولكن الأزمة في تكريس المبدأ؛ لأننا لو طبقنا هذه النظرية سنجد أن من حق الدولة مثلاً منع السجائر؛ لأنها تضر بالصحة، والإنترنت لأنه ربما يستخدم في التخابر أو مشاهدة الأفلام الإباحية، والسكاكين لأنها قد تمارس في القتل، والألعاب لأنها تضيع الوقت.. إلخ، وبذلك سيفقد الفرد أي حق شخصي بحجة حماية المجتمع!
جون ستيوارت رأى أن الحل هنا يكمن في تقليص الظاهرة، فمنع الظاهرة بصورة مستمرة أمر خيالي ومستحيل الحدوث، وذلك من خلال طرح حلول عديدة يمكن اتخاذها في مثل هذه القضايا لحماية المجتمع والحفاظ على حقوق الفرد في نفس الوقت، سأذكرها وأضيف عليها:
– منع شرب الخمر لمن هم دون سن معينة.
– منع شرب الخمور في الأماكن العامة.
– منع القيادة تحت تأثير الخمور.
– وضع ضرائب إضافية على الخمور تذهب عائداتها لعلاج المتضررين منها.
بهذه الطريقة سنكون قد حافظنا على حرية الفرد، وحمينا المجتمع في نفس الوقت، إضافة إلى الاستفادة من العائدات الضريبية في حملات توعوية وأيضاً مساعدة المتضررين من إدمان الخمور وغيرها.
بالتأكيد لن يلقى هذا المقترح قبولاً لدى شريحة كبيرة في مجتمعاتنا الشرقية؛ نظراً لاصطدامها مع القيم الإسلامية التي تحرم الخمر، لكننا لو فكرنا بتمعن فسنجد أن تحريم الخمور جاء لحماية المجتمع من وجهة النظر الإسلامية، لا للوصاية عليهم، ووضع عقوبة عليها وهي الجلد كان هو الأنسب والأكثر ملاءمة وفق ذلك الزمان، ووضع عقوبة على الخمور دون الكثير من الذنوب كان بهدف حماية المجتمع لا التحكم به.
وإذا قال سائل من وجهة نظر إسلامية: كيف تريد أن تأخذ الدولة أموالاً من حرام وتصرفها؟! فأقول له: إن كثيراً من الفقهاء يرون أن الأموال التي منبعها من حرام يجوز صرفها في المنفعة العامة، ومن الممكن أن تصرف لمحاربة الظاهرة من خلال إعلانات توعية وكذلك إنشاء المستشفيات لعلاج مدمني الكحول وتأهيلهم نفسياً مرة أخرى؛ ليعودوا كعناصر فاعلة في المجتمع، وساهمت إلى أقصى حد في تحجيم الظاهرة، وربما القضاء عليها.
ولا أريد أن أحصر الفكرة في الخمور فقط، فالأمر يشمل كافة مناحي الحياة الاجتماعية، ومن أهمها التعبير عن الرأي، وحرية انتقاد الحاكم، وممارسة الحياة السياسية، وطرح الأفكار وغيرها، فلا يجب أن يكون هناك مبرر لمنع فكرة مهما كانت شاذة أو غريبة، واحترام حرية الفرد في التفكير والتعبير عن رأيه، فلو نظرنا على سبيل المثال للعديد من الأفكار التي نؤمن بها اليوم سنجد أنها بدأت ضعيفة لا يؤمن بها سوى القليلون، وتمت محاربتها بشدة، فالكثرة لا تعتبر دليلاً بأي حال من الأحوال على صواب وجهة النظر أو الرأي، فهيباتا وجاليليو كانا يعتقدان أن الأرض كروية بعكس رأي الأغلبية، وتسببت آراء هيباتا في قتلها على يد المتدينين المتعصبين، وكادت أسباب جاليليو تقتله بعد محاكمته على يد الكنيسة وإجباره على التراجع عنها لتلاشي حكم الإعدام، وكذلك الحال بالنسبة لأرسطو، كما أن جميع الديانات بدأت ضعيفة لا يتبعها سوى قلة من القوم وتمت محاربتها بشدة، وغيرها من الأفكار الأخرى التي أسهمت في تطور البشرية.
كما يرى ستيوارت أن وجود أفكار متعارضة ومختلفة أمر صحي للغاية، فإن ظهور فكرة جديدة لا يضر أحداً حتى لو كانت خاطئة؛ لأن الفكرة لو كانت صحيحة، فإنها ستصحح المجتمع وتنفي الفكرة الخاطئة التي كان يؤمن بها الجميع، أما لو كانت الفكرة خاطئة فإن ضعفها سينكشف ويتعزز الشعور لدى الجميع وثقتهم بالفكرة التي يؤمنون بها، وهو أمر في غاية الأهمية.
لقد كان ستيوارت يرى أن الانحياز للحرية المجتمعية يساعد على خلق قوالب متشابهة عاجزة عن التفكير أو الإبداع مثل تلك التي نلحظها في مجتمعاتنا الشرقية التي اهتمت بحرية المجتمع على حساب حرية الأشخاص، فنجد أن المجتمع كله يسير في نهج مكرر وبطريقة تفكير مكررة تقتل كلاً من الإبداع والتفكير والتجديد، وهو ما ينتج عنه التمسك بالقيم بشكل ظاهري مع ضياع الهدف الأساسي من القيمة ذاتها، فمثلاً سنجد أن الغالبية العظمى من الفتيات يرتدين الحجاب، لكن معظمهن لا يدرين لماذا يرتدينه؟! أو الهدف منه؛ ليصبح الأمر بمرور الوقت تقليداً أكثر منه إيماناً بفكرة، فتتمسك بعض الفتيات بحجابهن ويتخلين عما هو أكثر من ذلك لماذا؟! لأن المجتمع تناسى الهدف من الحجاب وبات يعيش في قوالب جامدة متوارثة يقلدها دون تفكير.
كل ذلك حدث؛ لأننا أغلقنا لقرون طويلة الباب أمام أي رأي مخالف، فنسي الناس الهدف وتحولت القيمة إلى عادة، وهو ما يجعل كثيراً منا يؤمنون بمبادئ نسوا الهدف منها، فبات هناك مصطلحات نكررها دون أن نؤمن بمعناها، فنقول: المصريون متدينون بطبعهم، فبات التدين هو الغرض، ونسينا أن الغرض الأساسي من التدين العدل والقيم والأمانة والأخلاق الحسنة، فنجد فلانا لا ينقطع عن العبادات، ولكنه في الحقيقة شخص سيئ المعشر، وبتنا نقدس جيوشنا وحكامنا ونرفض انتقادهم حتى لو باعوا الأرض وخانوا الأمانة، وبطشوا بأهل البلد، وسرقوا خيراتهم؛ لتتحول الجيوش والحكام إلى آلهة تدمر شعوبها، متناسين أن الهدف من تواجدها هو حماية الشعب والأرض، وهو ما يدفع البعض في مصر إلى تقديس التجنيد الإجباري، الذي كان يهدف إلى التطوع لحماية الأرض والعرض، وتحول بمرور الزمن إلى وسيلة للاستعباد وخدمة مصالح اجتماعية وتجارية للقادة العسكريين!
إن السماح بوجود أفكار جديدة يخلق مجالاً واسعاً للمنافسة، التي ينتج عنها الأفضل بكل تأكيد، فمن المعروف أن الرياضي الذي لا يجد منافساً قوياً يتراجع مستواه بلا أدنى شك مهما كانت قدراته، وكذلك الحال بالنسبة للشركات وجميع مناحي الحياة المختلفة.
لذلك نجد أن المجتمعات المنغلقة تتراجع بصورة واضحة خاصة في مجال الإبداع؛ لأن الإبداع يأتي من الاختلاف والخروج عن المألوف، وهو أمر نادر الحدوث في المجتمعات التي تغلب حق المجتمع على حق الفرد، فنجد أن الفرد يخشى الإعلان عن أفكاره خوفاً من بطش المجتمع، أو احتقاره أو التهكم عليه، فنتحول بمرور الوقت إلى قطيع واحد، بتصرف واحد، وأفكار واحدة، وملبس واحد، حتى إننا سنلاحظ أن أي محاولة في تغيير "ستايل" الشعر أو الملابس يلقى هجوماً مجتمعياً صارخاً سواء بنظرات أو ضحكات أو الاعتداء والتحرش خاصة على الفتيات.
أرجو أن أرى اليوم الذي ننعم فيه بحرية الفرد ونقدسها كما نقدس حرية المجتمع، وأن نتوقف عن تبرير التعدي على حريات الآخرين بحجة الحفاظ على المجتمع وعاداته وتقاليده، وأيضاً بحجج دينية ما أنزل الله بها من سلطان، فالقرآن حث في مواطن عديدة على حرية التعبير، وحرية التفكر، وحرية الإيمان والمعتقد، فلماذا ننزع الحقوق من أنفسنا؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.