لم يكن "القرار الاستباقي" (Proactive Decision) للشرطة التونسية منعزلاً عن نهج رسم السياسات الرسمية للنظام التونسي القائم على الظلم والاستبداد (كما هي طبيعة الأنظمة العربية عموماً)، الذي نتج عنه الكثير من "النتائج السلبية استراتيجياً" (Strategically Negative Outcome) ليس ضد مصالح النظام التونسي فحسب، بل أيضاً ضد مصالح الكثير من الأنظمة العربية، في مقابل "القرار التفاعلي" (Reactive Decision) لمحمد البوعزيزي (الذي لم يكن أيضاً منعزلاً عن طموحات الكثير من الشعوب العربية المضطهدة التي تنتهز الفرصة للتمرد بشكل أو بآخر على النظام العربي الرسمي) الذي نتج عنه الكثير من "النتائج الإيجابية استراتيجياً" (Strategically Positive Outcome) لمصلحة آمال الشعوب العربية وتطلعاتها.
تحليلياً، تأثيرات "النتائج الإيجابية استراتيجياً" ستتفاعل كماً ونوعاً مع الوقت في أربعة أبعاد، على أقل تقدير، كما يلي:
أولاً: البعد الزماني؛ لأن ثورات الربيع العربي لم تنتج فقط "نتائج إيجابية قريبة المدى" (Short-term Positive Outcome) بل أيضاً أنتجت (وستنتج) "نتائج إيجابية متوسطة المدى" (Medium-term Positive Outcome) و"نتائج إيجابية بعيدة المدى" (Long-term Positive Outcome)، أياً كان نوعها (أكانت "نتائج من الدرجة الأولى" (First-order Outcome)، أي "نتائج ملموسة أو مادية"، "نتائج مباشرة"، أو/ و"نتائج مقصودة"، أو كانت "نتائج من الدرجة الثانية" (Second-order Outcome)، أي "نتائج غير ملموسة أو غير مادية"، "نتائج غير مباشرة"، أو/ و"نتائج غير مقصودة").
فعلى الرغم من الجهود التي يبذلها النظام العربي الرسمي وأطراف "الثورات المضادة" الإقليمية والدولية منذ ست سنوات فإن سياساتها ما زالت بشكل أو بآخر "غير قادرة على تغيير" (Unable to Change) تأثيرات البعد الزماني لتلك النتائج، التي لم ينتج عنها فقط تغيير الكثير من السياقات على المستوى العربي، بل أيضاً على المستويين الإقليمي والدولي (سياسياً، اقتصادياً، اجتماعياً، فكرياً، ثقافياً، عسكرياً، وغير ذلك)، أقلها تغيير مواقع الكثير من قوى "مقاومة التغيير" (Resistance to Change)، أي أطراف "الثورات المضادة"، من موقع "الفعل الاستباقي" (Proactive Action) إلى موقع "الفعل التفاعلي" (Reactive Action)، الذي نتج عنه بدوره اختلال "ميزان القوى" عربياً وإقليمياً ودولياً، الذي كان تغييراً جوهرياً لبعض الأطراف ونسبياً للبعض الآخر، وهو الأمر الذي من المرجح أن يستمر في تقلباته في المديين القريب والمتوسط.
ثانياً: البعد المكاني؛ لأن امتداد تأثيرات "النتائج الإيجابية استراتيجياً" لن تكن مقصورة على الشعب التونسي فحسب، بل أيضاً تمددت (وستستمر بالتمدد) إلى الشعوب العربية وأحرار الأمة، التي يشترك معها الشعب التونسي في الكثير من الخصائص العقائدية والثقافية.
مع الوقت، ستنجح "النتائج الإيجابية استراتيجياً" بشكل أو بآخر في التأثير على فئات مجتمعية جديدة تشترك بنفس الخصائص العقائدية والثقافية (كماً ونوعاً، وأفقياً وعمودياً)، إما من خلال الحصول على دعمها لثورات الربيع العربي أو تحييدها عن دعم النظام العربي الرسمي.
ثالثاً: البعد الإدراكي، بما أن الثورات الاجتماعية تقوم على "فكرة" تعكس آمال شعوبها وتطلعاتهم فإن تأثيرات "النتائج الإيجابية استراتيجياً" لثورات الربيع العربي قد نجحت بشكل أو بآخر في زراعة تلك "الفكرة" (أي "العدالة والحياة الكريمة") في أذهان فئة جديدة لا يستهان بها من الأفراد والجماعات والشعوب بحيث ستتفاعل مع الوقت لتسهم في إعادة تشكيل عملية "(اكتساب) الإدراك" (Cognition) على المستويين الفردي والجمعي كماً ونوعاً، والتي ستؤثر بدورها بطريقة أو بأخرى في تشكيل "الوعي الجمعي" (Collective Consciousness) و"الذكاء الجمعي" (Collective Intelligence)، لدى الفئات التي تسعى لتحقيق تلك "الفكرة"، خصوصاً لدى القيادات الثورية الفاعلة وأتباعهم وأنصارهم من أبناء الأمة.
رابعاً: البعد الاستعدادي أو العملياتي، بما أن الثورات يقودها عموماً "النخب" (أياً كان نوع تلك النخب: فكرية، ثقافية، سياسية، ثورية، دينية، أو غير ذلك)، فقد نجحت نسبياً القيادات الثورية الفاعلة (خاصة جماعة المسلمين) في ذروة "الموجة الأولى" لاختيارها "أسلوب قيادة" (Leadership Style) ملائماً والذي نتج عنه رفع "مستوى الاستعداد" (Level of Readiness) بـ"فاعلية" (Effectiveness) و"كفاءة" (Efficiency) الأمر الذي حفز عاملي "الرغبة" و"القدرة" على التغيير (Willingness and Ability to Change) لدى "التابعين (أو الأعضاء المنظمين)" (Followers) ابتداءً، ثم تبعهم "القاعدة الشعبية" (Grassroots or Constituencies) من أبناء الأمة عموماً، لتنفيذ تلك "الفكرة" (أي "العدالة والحياة الكريمة") على أرض الواقع، إلا أن الخطاً الاستراتيجي الرئيسي الذي ارتكبته تلك القيادات الثورية (خاصة جماعة الإخوان المسلمين)، الذي نتج عنه إخماد شعلة الثورات وزخمها، وبالتالي قتل الحماس لدى "التابعين" أو المتظاهرين والمحتجين في الميادين والشوارع، كان بعد اختيار تلك القيادات دخول المفاوضات مع أنظمتها بشكل أو بآخر وفقاً لمبدأ "التعاطف (مع الخصم، أي مع رموز الأنظمة السابقة)" (Empathy)، الذي يستند عموماً على أسلوب "التسوية أو الحل الوسط" (Compromising) أو/ وأسلوب "التعاون (مع الخصم)" (Collaborating) أو/ وأسلوب "الاستيعاب (استيعاب الخصم)" (Accommodating)، بينما كان الأفضل لها أن تدخل وفقاً لمبدأ "الجزم (مع الخصم) أو الإصرار (على التغيير الجذري)" (Assertiveness)، الذي يستند عموماً على أسلوب "التنافس (مع الخصم)" (Competing)، وذلك لانتزاع الانتصار من تلك الأنظمة (ورموز أركانها الفاعلة) التي كانت نسبياً في أوج ضعفها، فالحلول الوسط في الثورات تؤدي إلى السجون وحبال المشانق.
مثال نسبي على ذلك، لقد لعبت الأبعاد الأربعة سالفة الذكر دوراً مهماً بشكل أو بآخر في تمهيد الطريق إلى الانتصار في ثورات "أوروبا الشرقية" أو بما يعرف بـ"ثورات 1989″، كما يلي:
أولاً: البعد الزماني، وهو تأثيرات "النتائج الإيجابية استراتيجياً" (قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى) بأنواعها المختلفة التي أفرزتها مجموعة من الثورات أو "الموجات الثورية" في أوروبا على مدار قرن ونصف من الزمن تقريباً، ابتداءً بـ"ثورات عام 1848″ أو بما يعرف بـ"ربيع الأمم" (Spring of Nations)، ومروراً بـ"الثورة أو الانتفاضة الهنغارية" عام 1956 و"ربيع براغ" عام 1968، وصولاً إلى "حركة التضامن" في بولندا في بداية الثمانينات ثم "الثورة المخملية أو الناعمة" في تشيكوسلوفاكيا عام 1989، ناهيكم طبعاً عن تأثيرات "الثورة الفرنسية" عام 1789 التي يعتبرها بعض الباحثين "أم الثورات" لما أحدثته من تأثيرات ليس فقط على الساحتين الفرنسية والأوروبية بل أيضاً على الساحة العالمية عموماً.
ثانياً: البعد المكاني؛ لأن تأثيرات "النتائج الإيجابية استراتيجياً" لكل ثورة منفردة لم تكن محصورة فقط داخل حدود الدولة الأوروبية صاحبة الثورة، بل تمددت لتشمل معظم الشعوب الأوروبية لامتلاكها تقريباً نفس الخصائص العقائدية والثقافية، ناهيكم طبعاً عن تأثيرات نتائج نجاح شعوب دول "أوروبا الغربية" بتحقيق "العدالة والحياة الكريمة" التي أسهمت بشكل أو بآخر في تحفيز شعوب "أوروبا الشرقية" لتحقيق ما حققته الشعوب الشقيقة عقائدياً وثقافياً وقارياً (أو مكانياً).
ثالثاً: البعد الإدراكي؛ لأن تراكم تأثيرات "النتائج الإيجابية استراتيجياً" لمجموع "الموجات الثورية" أسهمت مع الوقت في إعادة تشكيل عملية "(اكتساب) الإدراك" على المستويين الفردي والجمعي، التي أثرت بدورها إيجابياً في تشكيل "الوعي الجمعي" و"الذكاء الجمعي"، الذي مهد الطريق فيما بعد للقيادات الثورية الفاعلة في "أوروبا الشرقية" لتحقيق "العدالة والحياة الكريمة".
رابعاً: البعد الاستعدادي أو العملياتي، الذي كان من خلال نجاح القيادات والحركات الشعبية والثورية والدينية الفاعلة، خصوصاً حركة التضامن بقيادة "ليخ فاونسا" والكنيسة الكاثوليكية في بولندا، للترويج لفكرة "العدالة والحياة الكريمة" بـ"فاعلية" و"كفاءة" مما أدى لرفع "مستوى الاستعداد" وبالتالي النجاح في زيادة شدة "الرغبة" وقوة "القدرة" على التغيير لدى "تابعي" أو أعضاء حركة التضامن والكنيسة الكاثوليكية ابتداءً، ثم تبعهما فيما بعد الشعب البولندي وشعوب دول "أوروبا الشرقية" عموماً، لمواجهة قوى "مقاومة التغيير"، أي مواجهة أنظمة حكم دول "أوروبا الشرقية" والاتحاد السوفييتي، من خلال الاعتماد على أسلوب "الجزم أو الإصرار" في المفاوضات الذي نتج عنه عموماً تحقيق الانتصار، الذي بدوره نتج عنه بشكل أو بآخر سقوط أنظمة حكم "أوروبا الشرقية" وحليفها الاتحاد السوفييتي كسرعة تساقط أوراق الأشجار في فصل الخريف، أو بما يعرف بـ"خريف الأمم" (Autumn of Nations)، تبعه بعد ذلك بالنتيجة اختلال "ميزان القوى" الدولي لصالح الولايات المتحدة الأميركية لعقدين من الزمن تقريباً.
هل يعني المثال سالف الذكر أن الشعوب العربية بحاجة إلى قرن ونصف من الزمن لتحقيق "العدالة والحياة الكريمة؟
الإجابة: قطعاً لا. فعلى الرغم من محاربة ثورات الربيع العربي بالكثير من الوسائل غير الإنسانية من قبل أطراف "الثورات المضادة" العربية والإقليمية والدولية (كما كان الحال مع ما واجهته الكثير من الثورات وحركات التحرر في العالم عبر التاريخ)، فإن عوامل كثيرة تجعل من نجاح التغيير في فترة زمنية أقصر بكثير جداً بالمقارنة مع تلك التي احتاجتها الشعوب الأوروبية عموماً (بما فيها شعوب "أوروبا الشرقية"). من تلك العوامل على سبيل المثال:
أولاً: ازدياد "شدة المظالم" (Intensity of Conflict) كماً ونوعاً (سياسياً، واقتصادياً، وغيرها) التي تعانيها الشعوب العربية عموماً نتيجة نهج سياسات النظام العربي الرسمي، الذي بدوره مع الوقت سيعمل مجدداً على تحفيز القيادات الشعبية والثورية الفاعلة للإسهام في رفع "مستوى الاستعداد" لزيادة عاملي شدة "الرغبة" وقوة "القدرة" على التغيير لدى "القاعدة الشعبية" عموماً، خصوصاً لدى "التابعين".
ثانياً: انتشار وسائل "عصر المعلومات" (Information Age) الذي سيؤدي إلى التسريع الزمني أو تقليص الفجوة الزمنية لعملية "(اكتساب) الإدراك" لدى الشعوب العربية عموماً على المستويين الفردي والجمعي، وبالتالي الإسهام بشكل أو بآخر في سرعة نضوج "الوعي الجمعي" و"الذكاء الجمعي"، الأمر الذي سيزيد من إصرار الشعوب العربية على التغيير.
ثالثاً: بشكل أو بآخر، دخول بعض الأنظمة العربية في مرحلة "الانحدار أو الضعف التنظيمي" (Organizational Decline) نتيجة نهج عملية رسم السياسات واتخاذ القرار، وفي حالة استمرار ذلك النهج على ما هو عليه الآن في المدى المتوسط أو البعيد فإنه سيؤدي بها إلى الدخول في مرحلة "الموت التنظيمي" (Organizational Death)، وبالتالي إلى ارتفاع التكلفة (سياسياً، واقتصادياً، وعسكرياً، وغيره) التي ستتكبدها أطراف "الثورات المضادة" لإبقاء تلك الأنظمة على قيد الحياة (خاصة نظامي عبد الفتاح السيسي وبشار الأسد وغيرهما)، وهو ما لن تستطيع تلك الأطراف أن تقدر على تحمل تكلفته في المدى المتوسط أو البعيد، الأمر الذي سيجعل حينها من مسألة "قرار استباقي" أو "قرار تفاعلي" يؤدي إلى إشعال موجة ثورية ثانية مسألة وقت ليس أكثر، والله أعلم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.