قالوا له إن هناك زميلة ستشاركه في عمل البحث المطلوب منه، هو لا يعرفها ولم يسمع عنها ولم يقابلها من قبل، فضلاً عن أنه لم يتعامل مع أنثى في حياته غير أمه وأخته، دائماً ما كان بعيداً عن الجنس الآخر في كل مراحل حياته، حتى مرحلة المراهقة وبدايات الدراسة الجامعية مرت دون قصة حب أو حتى مجرد إعجاب بأنثى.
أصدقاؤه بالثانوية كانوا يحكون له عن الحب والهيام، كان يقابل هذا الكلام بالاستهزاء والسخرية، لم يكن يعرف ولم يكن يشعر، كان حجراً صلداً لا يُنبت شيئاً ولو هطلت عليه كل أمطار الدنيا، تربيته التي لو جاز لنا أن نسميها إسلامية طاردته في كل مراحل حياته، فهو قدوة يجب عليه ألا يعيش كباقي الشباب، يجب عليه ألا يتشاجر مع أحدهم فهو قدوة، يجب ألا يلعب ويلهو فهو قدوة، المحرمات كثيرة تحت ذريعة القدوة، ومن الطبيعي مع هذه الحالة أن الحب والبنات من الموبقات المهلكات.
تقمص هذا الدور بامتياز، وصار يلبس قميص القدوة بشكل لا إرادي، وكأن هذا هو الطبيعي، دفن فترة الثانوية في المذاكرة، ثم فترة الجامعة في العمل الحركي الإسلامي إن جاز هذا التعبير أيضاً، كل حياته كانت هكذا، ثم تفاجئه الأقدار بفتاة تشاركه البحث! سيعملان معاً ولا بد أن يتواصلا ويجلسا ويتناقشا معاً، يا لها من طامة كبرى! فهو فوق كل ذلك لا يجيد التعامل معهن، ويصيبه الخجل المحمر للوجه والتلعثم في الكلام كلما خاطبته إحداهن ولو كانت تكبره سناً.
وهو خارج من مكتب السكرتارية رأى فتاة فعرف من النظرة الأولى أنها هي، من دون سابق معرفة ولا دلالات توضحها، لكنه عرفها ولا يعرف كيف عرفها؟! والأغرب من ذلك أنه شعر أنه يعرفها منذ زمن، وأنه يعرف عنوانها ولونها وأكلها المفضل؛ لتتأكد له مع الأيام أن كل ما شعر به من النظرة الأولى كان صحيحاً، رغم عدم وجود أي دلالات يستنبط منها ما شعر به وتأكد من صحته بعد ذلك.
مر بجوارها ورحل في طريقه؛ ليعرف بعد يوم أنها هي، فيذهب لاجتماع مع الدكتور المشرف على البحث ليجدها جالسة معه، ولأول مرة تقع عينه مباشرة في عين فتاة وبطبعه الخجول احمرّ وجهه الأبيض وتلعثم في الكلام، وما زاده خجلاً أنها كانت هي المبادرة.
مدت له يدها ليسلم عليها، لم يعرف ماذا يفعل، ولم يعرف حتى الآن ما الذي جعله يمد يده ليسلم عليها؟ ليمس جلده لأول مرة في حياته جلد امرأة لا تحل له، رغم أنه عندما كان يُسأل في أمر السلام على المرأة من زملائه كان يرد بكلمات ثابتة في كل مرة -وكأنه ببغاء أو شريط كاسيت- بأنه لا يجوز ولا تمد يدك لها ولا تسلم عليها واعتذر لها، والأمر ليس به إحراج ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولو أُحرجت أو غضبت فلتخبط رأسها بالجدار، ولم يقف الأمر عند مجرد السلام بل طلبت منه رقم هاتفه للتواصل معه بخصوص البحث، يا له من تغير دراماتيكي في حياتك يا صديقي البائس!
مع الأيام جرت دماء في شرايين قلبه الأجدب، وما عاد يحمر وجهه أو تسقط منه كلماته، ورغم هذا لم تنحل عقدته النسوية إلا معها هي فقط، ويوماً وراء يوم تأكد من كل ما عرفه منذ النظرة الأولى، تأكد من صدق معلوماته فيما يخصها، لم يكن يعرف هل يحبها؟ هل هذا هو الحب أم لا؟ فهو لم يجربه قبل هذا، قد يكون مجرد إعجاب أو انبهار باهتمام أنثى به، قد يكون أحبها فعلاً ولكن كيف يفسر مشاعره المتناقضة بعد ذلك.
لماذا عندما أنهت العلاقة بينهما بكل بجاحة وغرور منها لم يحزن؟ لماذا شعر بأن حملاً ثقيلاً قد انزاح من على كتفيه؟ لماذا لم يحاول الوصل معها مرة أخرى؟ أنهت هي العلاقة بيدها رغم أنه كان قاب قوسين أو أدنى من إقناع أهله بالأمر، هل إحساسه بالخديعة أنساهُ غدرها؟ نسي الأمر بطريقة غريبة رغم أنه من المفترض أنها أول علاقة له بالجنس الآخر، فكيف تمر تجربة الانهيار هكذا دون أن يتأثر بالأمر.
عادت حياته لطبيعتها ونسي أمرها نوعاً ما، إلا من بعض الذكريات تأتي عنوة كل حين وآخر، لم يعرف عنها شيئاً بعد ذلك، ولم يحاول أن يعرف، لم يهتم بالأمر وتمنى لها حياة عادية ككل البشر، فلم يكن الأمر يشغل تفكيره.
وبعد سنين يجد رسالة تطرق هاتفه المحمول الذي لم يغيّره رقمه منذ الجامعة فيها اعتذار وطلب مسامحة، وموقّعة في النهاية باسمها، أرسلت له رسالة تستسمحه وتطلب منه العفو، وتحكي له عما فعلت بها الأيام، فلقد نكلت بها الدنيا أشد تنكيل، فوقعت تحت يد زوج أذاقها الويلات وشردها ونكل بها وبأهلها، جاءت تستسمحه وتطلب العفو منه ظناً منها أنه دعا عليها فانتقم الله منها، ثم قالت له: إنها فعلت كل شيء خطأ مع الرجل الصحيح، وفعلت كل شيء صحيح مع الرجل الخطأ، وأني ما زلت أحبك، ولم أنسَك يوماً ما!
هو لم يدعُ عليها ولم يشغل باله أمرها أصلاً، فهو من النوع الذي لا يتمنى شراً لأحد، يملك قلباً أبيض ناصحاً لا يعرف هذه الأمراض، ورزقه الله ضميراً متيقظاً يحاول به أن يضبط قلبه ونفسه وعقله، ما الذي ذكرها به؟ ولو كانت تحبه لما تركته؟ ولو كانت لم تنسَه طوال هذه المدة كما تزعم لما لم تتواصل معه؟ أوَلَيست هي من أنهت الأمر قديماً؟
شعر أنها تعامله كما يعامل صاحب السيارة استبنه (إطاره) الاحتياطي، هو ملقى في السيارة أو في البيت، لا نعيره انتباهاً إلا عند الحاجة، ملقى ولا نلجأ له إلا بعد نفاد كل الخيارات، فهو موجود ومنتظر ولن يغادر قوقعته.
أبعد أن داستها الدنيا وفرمتها ترجع لتسأل عنه، ترجع لتعلِمه أن حبها له لم ينقطع؟ أوَلا تعلم أن الزمن لا يتركنا دون تغيير أو ندوب؟ هذا القلب قد تغير للأسف ولم يعد كما كان، طحنته الدنيا هو الآخر وحمّلته من الهموم ما لا يطيق، طعنته الأيام من كل ناحية وسحقت روحه المتفائلة الشفافة التي قرأت روحها من أول نظرة.
هو نفسه يحتاج لميكانيكي قلوب يصلح له عطب قلبه، ميكانيكي ذي يد حانية ماهرة ناعمة، فقلبه صار بلا روح، صار قلباً خاوياً لا يعرف شيئاً ولا يشعر بشيء، أصابه جدب المشاعر، هو يعلنها صراحة أنه لن يكون سوى إطار أساسي في سيارة جديدة، سيارة تتوافق معه ويبدأ معها رحلة جديدة بلا ذكريات أو رواسب، ولكن أين يجد هذا الميكانيكي الماهر؟ أين يجد هذه الأنثى التي تعيد له الثقة في الحياة؟ التي تروي ظمأ قلبه، وتشعره بأنه الأساس ولن يكون احتياطياً يوماً ما، فتجربته السابقة أفقدته الثقة في قطاع الإناث.
بثَّ همومه أمامي وأنا لا أدري ما أقول له، ظنَّ أنه قد يجد عندي الجواب، ظن أنه من كثرة قراءتي لروايات الحب والغرام قد أجد له علاجاً، ولكنه لا يعلم أن النفس البشرية لا قواعد لها، النفس البشرية سر من أسرار الخالق ليس لها نظام تشغيل ثابت تسير عليه، وستظل تحيرنا وتحير المتخصصين في علومها إلى أن يختفي ولد آدم من على الأرض، ولم أجد ما أقوله له سوى أن الأيام جزء من العلاج، والنسيان نعمة تحتاجها في حالتك بشدة، وبعد حواري معه ظلت أغنية "بتناديني تاني ليه" بصوت "دنيا مسعود" ترن في أذني.