في أمسية باردة من شهر ديسمبر/كانون الأول 2017 داخل أحد مطاعم أتوستراد المزة، حسمت الشابة السورية لمى البحري أمرها فهي لن تغادر المدينة "المتعبة"، كما يحلو لها أن تصفها.
فإذا كانت المغادرة صعبة، فالبقاء أصعب، وأعز أصدقائها إما غادروا سوريا أو حظروها على فيسبوك بسبب خلافاتٍ سياسية، وكانت دائماً تتساءل عن سبب بقائها: "أغادر دمشق أم لا أغادرها؟ وهل مغادرة الوطن أثناء الحرب خيانة وجبن أو حقي الإنساني بالحياة؟".
أمضت لمى 7 سنوات من عمرها العشريني في ظل الحرب الدائرة حتى اليوم. تمكنت من التخرج في كلية الاقتصاد، وكمعظم شباب جيلها، اختبرت إحساس العجز والبطالة في سن مبكرة، في بلد يعيش حرباً صعبة.
إلهام بداخلها جعلها توجّه طاقتها ووقتها للمجال الخيري ومساعدة النازحين. فتولّد بداخلها شعور بالواجب لم تستطع التهرب منه، ورفضت بسببه منحة دراسية في الخارج، وهو ما ينتشر الترويج له كثيراً على صفحات فيسبوك وغيره.
هنا أوتوستراد المزة: هذا ما تخلّفه الحرب فينا
اختارت لمى أن تعلن عن قرارها النهائي داخل "كافيه ماجيستي"، وفي الشارع نفسه الذي ودّعت فيه كل أصدقائها على مدار الأعوام السبعة الماضية: أوتوستراد المزة أو شارع فايز منصور، كما تظهره خريطة جوجل.
على ناصية هذا الشارع، الذي شهد ما خلفته الحرب في نفوس الدمشقيين، افتتح مؤخراً عدد كبير من المحلات التي وظفت عشرات الشباب برواتب زهيدة، تعادل في بعض الأحيان وجبة غداء لخمسة أشخاص.
ورغم ارتفاع تكاليف غالبية هذه الأماكن لكنها تعج بالزبائن، ولا توحي أشكال مرتاديها بأنهم ينتمون للطبقة المترفة في دمشق. فالمطاعم أصبحت المتنفس الوحيد لأهل دمشق، "هم عاجزون في الغالب عن الاستمتاع بالتسوق أو السفر بسبب الغلاء الفاحش، لهذا يستمتعون بالأكل فقط" كما قالت لمى لـ"عربي بوست".
تدّخر لمى مصروفها لعدة أيام كي تتمكن من تمضية بعض الوقت في أحد هذه المطاعم، في حين تمضي غالبية أوقات فراغها سيراً على الأقدام في رحلات لا تخلو من مشاعر اليأس بعدما أدت النقاشات حول المستقبل والبلد إلى خسارة معظم أصدقائها حتى على النت. فاختلاف وجهات النظر حول تعريف ما ألمّ بالوطن – ثورة أو خيانة – ينتعش على صفحات النت تماماً كما على أرض الميدان.
قرار المغادرة ليس سهلاً أو يسيراً، لأنه قد يكون بكل بساطة بلا عودة. ولو افترضنا نجاح خطوة الخروج من سوريا، فإن الإجراءات الأخيرة التي أضافتها وزارة الخارجية على من يود استخراج جواز سفر أو تجديده تصعب الأمر على سوريي الخارج.
أصبح تجديد جواز السفر بشكل مستعجل من خارج البلاد يكلف 800 دولار أميركي (والعادي 300 دولار)، ما يجعله في مصاف أغلى جوازات السفر في العالم، علماً بأن عدد اللاجئين تعدى 6 ملايين سوري، وفق بيانات الأمم المتحدة.
هنا وسط دمشق: هذا ما يفعله الدمار بالمدينة
من منطقة المزة وشارعها الطويل شرقاً نحو وسط العاصمة دمشق، وتحديداً شارع الثورة أو منطقة المرجة، حيث مقر وزارة الداخلية، تشعر هنا بأن الحرب أنهكت المدينة بالفعل، تبدو آثار القصف على الجدران، وبحسب جوجل تعرض وسط دمشق لقصف على فترات مختلفة.
بل من خلال واجهات الأبنية الأكثر اتساخاً، إضافةً إلى مشهد الفنادق الرخيصة المكتظة بمختلف اللهجات. بعض نزلاء الفنادق مثلاً يتكلمون لهجة أهل دير الزور لأنهم نزحوا من تلك المنطقة واستقروا في هذه الفنادق.
ورغم المحاولات الحثيثة لاستعادة أدنى أشكال الحياة الطبيعية، إلا أن دوي القصف المتقطع يذكر بأنها ما زالت ساحة حرب. إذ تشهد المدينة بين الفينة والأخرى قصفاً مدفعياً من قوات النظام باتجاه المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة على حدودها، فترد المعارضة بإطلاق قذائف على بعض الأزقة في القسم القديم من المدينة، وهكذا دواليك.
هنا "المليحة" في ريف دمشق: أنا غريب في بيتي
الكثير من السوريين رفضوا الاستسلام لمشاعر الخوف الناجمة عن هذه المناكفات، وقرروا البقاء على العكس من لمى. منهم النحات مصطفى علي الذي يملك المال الكافي للحياة هنا من جهة، ومن جهة أخرى فهو يتلقى دعوات كثيرة لحضور وإقامة معارض في مختلف الدول لذلك فالسفر مسألة سهلة.
يدرك علي أن سبل الحياة باتت صعبة جداً في دمشق التي يحب، لكن "هواء الشام مختلف ولا يمكن أن يتنفس غيره". يقولها ويبتسم بينما يلملم المعادن من الأرض ليحوّلها إلى عمل فني جديد سيضعه أمام قلعة دمشق. هواء الشام بالنسبة له هو كل ما يألفه ويحبه من الناس والأماكن، لذا يرفض مخاطرة الخروج منه إلى ما لا يعرف.
الفنان السوري يملك الإمكانية الكافية للسفر إلى أي مكان في العالم، لكنه يعتبر أن الأصعب من المغادرة هو المغادرة الجبرية. ويقول لـ"عربي بوست": "أنا مُصر على البقاء هنا، رغم الخطر والخسارة التي تكبدتها بسبب الحرب".
خسر علي ورشة كبيرة كان يملكها في منطقة المليحة بريف دمشق (جنوب شرق) الخريطة، والتي شهدت اشتباكات بين قوات النظام والمعارضة. نُهبت محتويات ورشته، كما تعرض لمحاولة خطف كادت أن تكلّفه حياته.
بعدما كان "غاليري مصطفى علي" في المدينة القديمة يستقطب الكثير من الفنانين والزوار، أصبح شبه خالٍ من الرواد وفناجين القهوة المرتشفة على وقع النقاشات الفنية.
يقول علي: "صحيحٌ أنني في المكان نفسه، لكنني فقدت الكثيرين ممن كانوا يعيشون فيه، وبت أشعر أنني غريب في بيتي.. أرفض الاستسلام لشعور الاكتئاب، وأنا مؤمن أنه ثمة ضوء في نهاية أي طريق مظلم".
هنا سوريا إلى الأبد: روحي مرتبطة بالمكان
قرار البقاء في المدينة يستند إلى ارتباطات روحية وإنسانية رغم كل الوجع المحيط به، وكل إنسان لديه قصة إما عن شخص مات أو عن شخص فقد منزله.
ممن قرروا البقاء الفنان التشكيلي موفق مخول، الذي مازال حتى هذه اللحظة يعمل على مشاريع ثقافية جديدة، رافضاً جملةً وتفصيلاً فكرة السفر لأن "روحه مرتبطة في هذا المكان"، العبارة التي لن يفهمها إلا الدمشقي، حسب قوله.
"هذا المكان" هو منطقة القصور، وتحديداً متحف العلوم المدرسية، وهو مركز تعليمي عمل عليه عدد من الفنانين التابعين لوزارة التربية، على رأسهم الفنان موفق مخول، وبجهود متواضعة جداً، نجحوا في إيجاد مكان مميز مليء بالحيوانات المحنطة والمقتنيات التعليمية القديمة، وفتح أبوابه بالمجان أم الطلاب.
ولم تقتصر جهود هذا الفريق الفني على هذه الخطوة، إذ أبدعوا خلال السنوات السابقة في تزيين جدران المدارس بأمور بسيطة، هي مخلفات البيوت من صحون وكؤوس وحتى علب معدنية وغيرها الكثير التي جمعت بطريقة فنية، حتى نجحت إحدى هذه اللوحات الجدارية بدخول سجل غينينس كأكبر لوحة جدارية بيئية في العالم.
الفنان موفق مخول، والذي مازال حتى هذه اللحظة يعمل على مشاريع ثقافية جديدة، رفض فكرة السفر بسبب ارتباطات روحانية وإنسانية كبيرة تربطه مع المكان، وهو قد خاض تجربة الغربة في الماضي، ويعرف المعاناة التي يعيشها المغترب، ولا ينوي التكرار، لهذا رفض الالتحاق بابنتيه اللتين سافرتا إلى الخارج، وسمح لهما بالرحيل، فهو خائف من التورط بقرار قد يندم عليه؛ لأن الحرب كانت أقوى من كافة القرارات، وهو قادر على تحمل كل أضرارها، لكنه يخاف من تحميل أولاده أضرارها لو أرادوا السفر.
يرى مخول أن حياة الإنسان ليست أولاده فقط، فهؤلاء باتوا شباباً وهم أدرى بخياراتهم، كما أن الأهل في فترة من الفترات قد يصبحون عبئاً على الأولاد، لهذا ترك لبناته حرية القرار واحتفظ لنفسه بقرار البقاء.
وعلى صعيد العلاقات الاجتماعية، يعرف أن غالبية معارفه وأًصدقائه سافروا، لكنه مع ذلك لا يفكر بالانتقال ومغادرة البلاد، لأن أولئك انتشروا في بلاد الله الواسعة، ولو سافر لن يتمكن أصلاً من اللقاء بهم، فغالبيتهم توزعوا في الأرياف البعيدة.
وبعكس لمى التي بدأنا معها تقريرنا، أدركت ابنتا مخول الأسباب التي دفعتهما للسفر إلى الخارج بحثاً عن حياة كريمة وآمنة. وبينما رفض الالتحاق بهما، امتنع في نفس الوقت عن منعهما خوفاً من التورط بقرار قد يندم عليه. فالحرب، برأيه، أقوى من كافة القرارات.. "أستطيع تحمل أضرارها، لكني أخاف على أولادي منها".. لسان حال السوريين.
المصدر: الأمم المتحدة