شاهد على الاعتصام وفضّه

كنا في داخل كلية الهندسة نتتبع أخبار إخواننا المرابطين الأبطال في رابعة، وكلما أخبرنا المخبرون أن الميدان في رابعة لم يُفض بعد أحسسنا بالأمل والعزة، حتى جاءنا الخبر قبل المغرب بفض اعتصام رابعة، فكانت الهزيمة واليأس واللحظة التي تشابه أختها يوم أن أعلن المنقلبون عزل مرسي.

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/13 الساعة 06:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/13 الساعة 06:11 بتوقيت غرينتش

بدأنا اعتصامنا في ميدان رابعة العدوية في يوم الجمعة الموافق للثامن والعشرين من شهر يونيه عام 2013 وذلك قبل اليوم المرتقب، يوم الثلاثين من يونيه بيومين. ومن أول ما وطأت قدمي أرض الاعتصام في رابعة، وأنا أحس بالاختلاف الكبير بين ذلك الاعتصام، وبين اعتصامنا السابق في ثورة الخامس والعشرين من يناير في ميدان التحرير.

من أول يوم في رابعة والأجواء مختلفة وكذلك الوجوه. فميدان رابعة أكثر بعثاً على طمأنينة القلب، والعبق الإيماني في اعتصامه أعلى وأعمق، يتنشّقه المعتصم من أول دخوله للميدان، كما أن الوجوه في ميدان رابعة كانت أكثر نوراً، ولعل مرد ذلك إلى أن وجوه رابعة كان كله وجوهاً متوضئة، أما وجوه التحرير في ثورة يناير فقد كانت وجوهاً مختلطة لمتوضئين وغير متوضئين.

ومن فضول القول هنا أن أقول إن كلامي لا يحط من قدر ميدان التحرير وثورته العظيمة في يناير، ولكني أفاضل بين مشهدين فاضلين، وليعذرني رفقاء ثورة يناير إذا ما أقررت بأفضلية ثورة رابعة على ثورة يناير في كافة الوجوه والنواحي.

عشت في ميدان رابعة أياماً من أجمل الأيام، رباط وثورة وعبادة وذكر. ثم كانت لي فيه لحظة من أشد لحظاتي التي مررت بها في حياتي، وذلك يوم أن تلا رأس الانقلاب بيانه الانقلابي في ليلة الثالث من يوليو، ونحن منصتون في الميدان للصوت الذي يأتينا من المنصة، صوت السيسي يعلن فيه تعليق العمل بالدستور، وحلف رئيس المحكمة الدستورية العليا لليمين كرئيس مؤقت للبلاد.

كانت صدمة شديدة عليّ، لدرجة أنني أصبت بانخفاض في الدورة الدموية، ولولا أن الله قد ألقى عليّ النوم رحمة منه لكنت هلكت.

نمت ساعتها والميدان يفور غضباً وإحباطاً، نمت ما يقارب الساعة، ثم استيقظت على أصوات رصاصٍ لبلطجية استأجرهم المنقلب الخائن ليهاجموا الميدان.

والعجيب أن تجد في مثل هذه المواقف رجالاً يسيرون في وسط الحشود ويهتفون (الآن بدأت المعركة، الآن بدأت الثورة، لا تيأسوا من روح الله، هنا موطن الصبر والثبات)، أو يقولون كلاماً قريباً من هذا المعنى. وهؤلاء من النماذج التي يجعلها الله في كل زمن، أولئك الذين يثبتون إن رجف الناس، ويستيقنون إن شك الناس، ويكثرون إن فزع الناس، ويقلون إن طمع الناس.

أولعلهم ملائكة يرسلها الله في صورة بشر ليثبِّتوا الجموع.. ليس مستحيلاً ولا مستبعداً.
وبالفعل ثبت الناس، واستمر الاعتصام، بل وزاد زخماً وحركة، وبدأت حقاً الثورة الثانية، ثورة التطهير، وكنت قد كتبت ساعتها مقالاً نشر في إحدى الصحف بعنوان (من ثورة التحرير إلى ثورة التطهير).

بدأ الناس يتوافدون على رابعة من كل حدب وصوب، وبدأت الخيام تنصب في كافة أرجاء الميدان، حتى ضاق الميدان عنها، فبدأت تتشعب في الشوارع الجانبية المحيطة به.

وهنا جاء دور الشيخ حازم، صاحب الكاريزما الكبيرة والرؤية الموفقة في كثير من أحيانها، لكنه مع ذلك صاحب الأنا العالية، الذي يحب دائماً أن يُتْبع ولا يَتْبع، فقرر الاعتصام حينها في ميدان النهضة، وحدثت اشتباكات هناك في أول الاعتصام مع البلطجية والمأجورين من أجهزة الأمن المجرمة، وسقط في ليلة واحدة ما يقارب العشرين قتيلاً، فقرر حينها المعتصمون في رابعة أن يناصروا إخوانهم في النهضة ببعض المدد الثوري، فكان أن انتقل البعض إلى النهضة مكرهين، وكنت أنا منهم.

انتقلنا إلى النهضة فوجدنا ساحة ثورية عظيمة لكنها أقل عظمة من ساحة رابعة، ووجدنا أجواء إيمانية فواحة لكنها أقل فوحاً من أجواء رابعة، ووجدنا وجوهاً وضاءة لكنها أقل نوراً من وجوه رابعة. كان شباب (حازمون) يديرون المنصة، وهم شباب مؤمن مخلص، لكن فيهم شيء من الغلظة التي لا يداريها إخلاصهم وتفانيهم. عشنا في النهضة أياماً وليالي، نخرج في مسيرات تبدأ من أماكن في ضواحي الجيزة، ثم نعود بها إلى الميدان، هذا في أغلب الأيام والليالي.

كانت أجهزة الأمن الانقلابية المجرمة تبعث إلينا كل يوم بلطجيتها ومأجوريها ليقتلوا فينا ويفزّعوا فينا. وكنا نرى بعضاً من إخواننا في كل ليلة شهداء، فأثار ذلك حمية البعض ممن كانوا معنا، ليأتي بعضهم ببعض قطع السلاح، مدافعاً بها عن نفسه وعن إخوانه ضد القتلة والمجرمين.

وهنا ظهرت جلياً لعبة الأمن وأجهزة استخباراته، كان يبعث إلينا من يقتلنا كل يوم، ليدفع بعضاً من الشباب المتحمس إلى حمل السلاح، فيروج هو لذلك محلياً وعالمياً، ليوجد مبرراً لمحرقته التي صنعها فيما بعد عند فض الاعتصام.

استمرت المعركة، معركة الثورة، وبات ظاهراً أن الإنقلابيين قد قرروا قرارهم بفض الاعتصامين (رابعة والنهضة)، وكان يوم الفض في الرابع عشر من أغسطس عام 2013..

كنا في ذلك اليوم في ميدان النهضة نائمين بعد ليلة ثورية، قمنا فيها بمسيرة من منطقة فيصل إلى الميدان، وهي مسيرة لم أرَ مثيلها في حياتي، كانت حشود المتظاهرين لا تنتهي، حتى أني جزمت أن هناك بالفعل مدداً إلهياً من ملائكته تنزل فتثبت الصفوف وتكثر السواد.

نمنا بعد صلاة الفجر، وكنا قد قررنا قرارنا بالذهاب إلى الوزارت ودواوين المحافظات في الصباح الباكر لشل حركتها قبلما يدخل الموظفون إلى أعمالهم. لكننا في ذلك الصباح قمنا على إيقاظ إخواننا لنا مسرعين مهرولين، القوات تحاصر الميدان ويبدو أنها لحظة الفض التي حدثونا عنها كثيراً. كنا نسمع عن قرار الانقلابيين بفض الاعتصام، لكننا كنا على ما يشبه اليقين من أنهم لن يقدموا على ذلك، لأن في ذلك مجزرة محققة. قمنا من نومنا بعد السادسة صباحاً مباشرة، هرولت أنا إلى الوضوء، توضأت، وما إن عدت إلى خيمتي سريعاً، حتى بدأت أعمال الفض.

الطائرات تحلق من فوقنا والقناصة تظهر من أبوابها قانصة، المدرعات والجرافات تقتحم الميدان من كافة جوانبه، وقنابل الغاز تملأ المكان، وهو غاز غير مألوف، غاز لا تستطيع معه أن ترى أو تتنفس. لم أجد مقاومة كبيرة في ميدان النهضة، كان عدد المعتصمين قليلاً، وخصوصاً في هذه الساعة من كل صباح..
الجموع الموجودة هرولت إلى الخروج من الميدان مع القنص والقتل والتجريف، هرولت معهم إلى الخروج ولكني لم أستطع من كثرة الغاز الذي ملأ المكان وكاد يخنقني، لجأت مع من لجأ إلى كلية الهندسة، لكنني بعد أن دخلتها أدركت أن هذا هو الحصار الذي سيكون حتماً، حاولت أن أخرج من أحد أبوابها، لكنني عدت مرة ثانية تحت وقع القنص وشدة الغاز، عدت مستسلماً للحصار.
دخل الكثيرون مثلي إلى كلية الهندسة، وبعضهم يحمل جثث إخوانهم وأصدقائهم.

مكثنا في كلية الهندسة حتى المغرب، وفي طيلة هذه الفترة لا يتوقف الأمن عن ضربنا بالرصاص الحي وقنابل الغاز، وبعض الشباب الثوري الشجاع يواجه ذلك بإلقاء الطوب والحجارة عليهم، فيسقط منهم شهداء واحداً تلو الآخر.

بعد صلاة العصر اقترحت على بعض إخواني أن نعتلي السور الذي بين كلية الهندسة وحديقة الحيوان، وأن ننزل إلى الحديقة ونخرج من دروبها، فأخبروني أن القوات منتشرة داخل الحديقة أيضاً، فقلت لهم ساعتها: وليكن، لأن أموت باحثاً عن الحرية خير لي من أجلس منتظراً الحبس والعبودية. لكن محاولتي باءت بالفشل وعدت مستسلماً إلى داخل الكلية.

كنا في داخل كلية الهندسة نتتبع أخبار إخواننا المرابطين الأبطال في رابعة، وكلما أخبرنا المخبرون أن الميدان في رابعة لم يُفض بعد أحسسنا بالأمل والعزة، حتى جاءنا الخبر قبل المغرب بفض اعتصام رابعة، فكانت الهزيمة واليأس واللحظة التي تشابه أختها يوم أن أعلن المنقلبون عزل مرسي.

جرفوا الميدان وحرقوا خيامه ونهبوا متاعه وقتلوا عشرات الناس واعتقلوا المئات في يوم دموي تاريخي، سيظل يذكره التاريخ، يوم المحرقة، يوم أكبر مجزرة تاريخية لمعتصمين سلميين.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد