ومضات على طريق الغربة “1”

هنا عادت بي الذاكرة إلى قبل عامين ونصف العام من الآن، حينما قادني القدر إلى تركيا لإكمال دراستي العليا في كلية الهندسة في إحدى الجامعات التركية العريقة في العاصمة التركية أنقرة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/29 الساعة 01:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/29 الساعة 01:54 بتوقيت غرينتش

إذا ما لاح في طيف ذاكرتك تفكيرٌ بدراسةٍ خارج نطاق بلدك، أو إطلالة في الأفق تُبشر بمنحة دراسية للدراسة في الخارج، فهذا بلا شك شيء سيضفي على حياتك الكثير، وسيبعث في نفسك أملاً عظيماً، ليس على مستوى الدراسة والجامعات فحسب، فهذا حتمٌ لازم؛ بل من ناحية الثقافة والتقاليد، وانخراطك داخل مجتمع مُختلف إلى حد ما عن البيئة التي تنفست هواء الطفولة داخل أزقتها، وعشت بنفس الرتم السائد فيها، ولم تُتح لك فرصة مخالطة أناس من جنسيات وديانات واعتقادات مختلفة.

لا شكّ أن ذلك سيدفع عجلة إدراكك بشكلٍ لم تكن تتوقعه، وسيفرض عليه العيش داخل بساتين فيها من أشجار النرويج، ونسمات صربيا، وجفاف إفريقيا، وثمار كازخستان، وثلوج روسيا، ورياح اليمن، وعطور فرنسا، وستجد أن لكلِ واحد منها عاداته الخاصة، وطقوسه المُميزة التي يعتز بها، وكذلك أنتَ صاحبُ الإرث الحضاري العظيم، ليكُن نيشان فخر لك، واحذر أن تنسلخ عنه، وأن تغرق في بوتقة الثقافات، بالعكس افخر بماضيك، وتزوَّد من ثقافات غيرك.

قد تنزعج في البداية من اختلاف البيئات عما اعتادت رُوحك عليه، وانسجمت نفسك معه، ولكن كُن على ثقة أنّ هذا لن يدوم طويلاً إن كنتَ من عُشاق المغامرات وذا نفسٍ صبور، يستوعب الجميع ولا يسمح للضجر بالتسلل بين ثناياه بكلِّ سهولةٍ، فمن الطبيعي أن يولد شعور كهذا، وأن هذا الاختلاف سيندثر بشكلٍ أسرع إن كنت قد التحقت بدولة مشابهة لدولتك في العادات والتقاليد، أو حتى نفس اللغة التي تتداولها في دولتك.

هنا عادت بي الذاكرة إلى قبل عامين ونصف العام من الآن، حينما قادني القدر إلى تركيا لإكمال دراستي العليا في كلية الهندسة في إحدى الجامعات التركية العريقة في العاصمة التركية أنقرة.

حطت الطائرة في مطار إسطنبول الدولي الساعة الثالثة فجراً، وكان الجو بارداً إلى حدٍّ ما، لم أكن أعرف حينها من اللغة التركية إلّا كلمة شكراً، وكنت ألفظها لموظف المطار بشكلٍ مخالف لما اعتاد أن يسمعها، الأمر الذي يجبرني على إعادتها مرة أخرى بعد أن أرى علامات عدم فهمها على ثغره، مكثت في إسطنبول ليالي أربعاً دُهشت من عراقة وجمال وأناقة تلك المدينة الساحرة، قبل أن أنتقل إلى حيث سأدرس في العاصمة أنقرة، جُهِّزت الحقائب وقُطعت التذكرة وجلست في مقعدي بعد توديع الأصدقاء منتظراً موعد انطلاق الباص، وبدأت حينها أراقب عقارب الساعة لحظة بلحظة متشوقاً للوصول.

كلما عانق عقرب الساعة الأكبر شقيقه الأصغر بدأ الشعور بالاعتماد على الذات ينمو ويكبر، فأنت وحدك الآن في باكورة الطريق الذي اخترته لِتُثبت نفسك فيه، دافعاً ومبدداً كل سُبُل الفشل والإحباط، ومنتشياً بهمةٍ تعلو إذا ما كُحِّلت عيناك بالجمال المنتشر عن يمين ويسار نافذة الباص، وصلت أنقرة فجراً ولم تتَح لعيني فرصة مغازلة جمالها، فالأرق والتعب قد سريا في الجسد واستوطناه، كنت مُتفقاً مع وائل صديقي السوري ورفاقه الأتراك على استقبالي، وأخبرتهم أنّ الباص سيحل على أنقرة في الساعة الخامسة فجراً، فَحَضَروا بسيارتهم في الموعد المتفق عليه، ركبنا واستقل عُمر السيارة حتى وصلنا إلى البيت، نمت حتى التاسعة صباحاً.

استيقظت ويشدوني العشق لرؤية تلك المدينة التي سأقطن فيها ثلاث سنوات على الأقل، تناولنا الفطور على النهج التركي، وخرجت وأحدهم إلى السكن المخصص لي؛ لاستكمال إجراءات تثبيت القيد وفرز المكان بشكلٍ نهائي، انتهينا فأحضرت حقائبي وأفرغتها في غرفتي ثُمانية الأَسِرّة، لم أعجب بها في البداية؛ لكنّي قلت ربما انخراطك داخلهم يتيح لك فرصة تعلم اللغة التركية بشكلٍ أسرع، لم أكترث كتيراً في البداية، فكنت في حالة اضطراب، والعديد من الالتزامات قد نسجت في عقلي شيئاً أقرب بحاجز معنوي من الضجر، جلست واستعدت عافيتي وتأقلمت قليلاً، فكان أحدهم يعرف القليل من الإنجليزية، تحدثنا في عطلة نهاية الأسبوع بشكل مقتضب.

وفي باكورة يوم الاثنين كان من المفترض أن أخرج ورفيقي لاستكمال إجراءات مركز اللغة؛ لكن صديقي طالب جامعي ولديه التزامات، فخرجت وحدي بعد أن أرشدني للطريق، والشيء المحزن هناك أن موظفي مركز اللغة هناك لا يجيدون شيئاً إلّا اللغة التركية وإيماءات الوجه وحركات اليدين أيضاً، فكيف لطالبٍ جديد مُقبل على دراسة التركية أن يحادثكم بها، أو يستوعب حديثكم، كان الأولى وجود مترجم أو شخص يتحدث الإنجليزية على الأقل.

ختاماً.. أُعلمكم أني لم أكتب هنا لسرد قصتي فحسب؛ بل لنتشارك معاً في تطوير ذواتنا، ولأخبركم قائلاً: لا معنى لحياتك إن لم تمزجها بمحاولات واستكشافات متواصلة واعتماد على النفس، والأهم ألا تدع للعجز موطناً في عقلك وتفكيرك، وأن تسخر كل الفرص التي حظيت بها للارتقاء بنفسك وخدمة الآخرين ومساعدتهم، ففي حياتك لن تنسى مَن ساعدك لحظة ضعفك، ومن هَاتَفَكَ لحظة تراخيك، ومن تبسم في وجهك بسمةً نقية صادقة، ولا تنسَ في حياتك وسفرك أيضاً أن تستمتع بكلِ لحظة، وأن تُسعد قلبك ومَن حولك، فأنت تعيش لحظات لن يكررها الزمن.

يتبع في التدوينة القادمة

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد