في الخامس والعشرين من أبريل/ نيسان، تحتفل مصر بعيد تحرير سيناء، والذي يوافق الانسحاب الإسرائيلي الكامل من مصر في عام 1982، بعد احتلال بدأ عام 1967، وفي المعتاد، يكون ذلك اليوم هو يوم للاحتفالات الوطنية، إلا أن الأمر كان مختلفاً هذا العام، حيث شابه الكثير من التوتر مع رفع حالات الاستعداد لقوات الأمن، وتحذير المواطنين من المشاركة في التظاهرات.
مصدر قلق النظام حالياً ناتج من الزيارة التي اعتبرها ناجحة واستثنائية للعاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، مطلع هذا الشهر بحسب تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية.
التنازل عن الجزيرتين
خلال تلك الزيارة، لم يوقع العاهل السعودي والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اتفاقات اقتصادية فحسب، بل تم التوقيع على اتفاق يقضي بنقل جزيرتي تيران وصنافير -الواقعتين في خليج العقبة- إلى السيادة السعودية.
في مصر، كانت الأصوات المعارضة متواجدةً على الفور، بل وكانت صاخبة ورفيعة المستوى، حيث ظهرت حالة من الغضب العارم على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام على حد سواء رفضاً للتنازل عن الجزيرتين.
كانت الاتفاقية -تبلغ قيمتها قرابة 25 مليار دولار- قد جاءت في وقت تنتشر فيه حالة من عدم الرضا عن الأوضاع الاقتصادية للبلاد، حيث يتفق الكثير من المحللين والخبراء أن البلاد على حافة انهيار اقتصادي وشيك، حيث تراجعت العملة المصرية (الجنيه) أمام الدولار الأميركي، فقد كان الدولار يساوي 7.83 جنيهات مصرية في فبراير/ شباط الماضي، قبل أن يسقط سعر العملة أمام الدولار بشكل مفاجئ إلى 8.95، في الوقت الذي من المنتظر فيه أن يتم فيه خفض قيمة الجنيه مرة أخرى قريباً مع تواصل انهيار السعر في السوق السوداء.
تزايد الأزمات الاقتصادية
مع كل حالة تخفيض لسعر العملة المحلية، تزداد أسعار البضائع وترتفع الأصوات المعارضة.
رواتب الطبقة الوسطى المتدنية -بعيداً عمّن يعانون من الفقر المدقع- أصبحت لا تغطي الحاجات اليومية، في الوقت الذي يعاني فيه أصحاب المعاشات -المتقاعدون- من مشكلة ارتفاع الأسعار أيضاً مع تراجع قيمة الجنيه.
في الوقت نفسه، تراجعت السياحة على شواطئ البحر الأحمر منذ سقوط الطائرة الروسية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كما فشلت السياحة في منطقة وادي النيل، التي تقوم بالأساس على آثار مصر الفرعونية، في استعادة نفسها منذ الثورة المصرية في 2011، وحتى الجيش نفسه، بما يملكه من إمبراطورية اقتصادية، أصبح ممولاً للدولة بدلاً من الانتفاع منها.
مشاريع كبرى للتغطية على القمع
وكجزء من الطريقة التي يستخدمها النظام لتشتيت المواطنين عن جانب القمع الذي يميز الفترة التي تولى فيها الحكم منذ الانقلاب على نظام الرئيس الأسبق محمد مرسي في يوليو/ تموز 2013، عمل النظام على إطلاق مشاريع كبرى، ومبادرات تهدف إلى نشر الروح الوطنية والحس القومي
ومن بين الخطط الكبرى التي أعلن عنها الرئيس المصري كانت تأسيس عاصمة جديدة ومليون وحدة سكنية، في الوقت الذي قامت فيه الشركات التابعة للمؤسسة العسكرية بالعمل على إنشاء فرع جديد لقناة السويس بسرعة فائقة، وبتكلفة بلغت 8 بليونات دولار.
وعلى الرغم من ذلك، مازالت أغلب تلك المشروعات مجرد رسومات غير منفذة، أو تحقق إيرادات أقل بكثير مما وعدت به الدولة، كما في حالة قناة السويس.
بالنظر إلى الدراسات الأدبية حول الدولة، يمكننا أن نرى العلاقة المعقدة بين الأزمات الاقتصادية وبين عدم الإستقرار أو تحقيق إصلاحات. ومع ذلك، فقد أوضح سامر سليمان في كتابه "خريف الدكتاتورية" أن النظام المصري عام 1990 -عندما كان على حافة كارثة اقتصادية كبرى- استطاع تجنب تحقيق إصلاحات سياسية موسعة وتمكن من البقاء في السلطة بفضل الإعفاءات الكبرى من الديون التي تحصل عليها نظير المشاركة في تحالف عسكري دولي ضد صدام حسين.
حالياً، يبدو أن السيسي يعتمد حالياً بشكل كامل على مزيد من المساعدات والاستثمارات القادمة من الإمارات والكويت والسعودية للحفاظ على الاقتصاد المصري وعلى أن يظل صامداً.
قمع المعارضة
حتى الآن، يمكن القول بأن النظام العسكري الأمني في مصر قد نجح في قمع المعارضة منذ يوليو/ تموز 2013، سواء كان هذا من خلال اعتداءات وحشية بحق أعضاء جماعة الأخوان المسلمين -أو مؤيديها-، أو من خلال المضايقات والاعتقالات للنشطاء والعمال والمجتمع المدني، والعاملين في حقوق الإنسان، باستخدام استراتيجية شرعية النظام التي صورت جميع المعارضين على أنهم خونة، وقد نجح النظام في إقناع قطاعات واسعة من المواطنين أن القوة هي الطريقة الوحيدة الفعالة للدفاع عن البلاد ضد بقايا الإخوان المسلمين، وضد التنظيمات الإرهابية في سيناء التي تتبع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
السيسي فشل في التعامل مع تيران
ومع ذلك، فشل السيسي ومستشاروه في تقدير آثار استخدام الاستراتيجية ذاتها في التعامل مع قضية تيران وصنافير، حيث يعد تاريخ السيطرة والسيادة على الجزيرتين أمراً معقداً، وهو ما يتضح من خلال سلسلة التبريرات والانتقادات اللاذعة التي أعقبت الأمر، إلا أن غالبية المصريين يعتبرون أن الجزيرتين هما جزء من التراب الوطني المصري.
كان الأمر مفاجئاً حتى بالنسبة للمعلمين الذي أخبروا بشكل مفاجئ أن ما كانوا يقومون بتدريسه للطلاب من خلال الكتب الحكومية طوال السنوات الماضية هو غير صحيح، في الوقت الذي عجز فيه الكثير منهم عن الإجابة عن تساؤلات طلابهم.
لم يكن الجدل حول الجزيرتين أمراً "أكاديمياً فقط"، فحالة الاستياء الشعبي هي أمرٌ مهم للغاية، حيث كانت المعارضة في هذه المرة أسرع بكثير وأوسع انتشاراً مما كان يحدث في السابق، وخاصة على وسائل الإعلام التي دائماً ما كانت خاضعة لأقصى درجة ولا تتجاوز الخطوط الحمراء التي وُضِعت لها.
مع انتشار الكثير من التعليقات لكبار السياسيين تحمّل الرئيس المصري مسئولية هذه الاتفاقية، كانت المعارضة أكثر شرعية هذه المرة، وفتحت الباب أمام المزيد من المحتجين بعدما عارض القرار الكثير من الرموز المؤيدة للنظام والمخلصة له.
السؤال هنا، لماذا تعد قضية ذلك الجزء استفزازية للغاية؟ الإجابة بسيطة، فلا يوجد ما يعد أكثر أهمية للهوية الوطنية من الحدود الجغرافية والتراب الوطني.
تظهر الأدبيات أو السرد الوطني في مختلف المناطق أيضاً بعض التغيرات في الروايات الرسمية، سواء كان عن طريق تأويل أحداث تاريخية أو مهمات وطنية أو أحداث اجتماعية، وهو أمر يظهر كثيراً في أوقات الأزمات السياسية أو الاقتصادية.
ومع ذلك، تشير الدراسات أيضاً إلى وجود ضوابط وحدود معينة للعناصر التي يتم تغييرها في السرد، والطريقة التي يتم تغيير تلك العناصر بها.
التنازل عن السيادة
ما يحدث في الغالب هو نوعٌ من إعادة الصياغة، كإعادة تفسير الأحداث الوطنية أو الرموز، وإعادة تحديد التوجهات القائمة للسماح ببعض الابتكار والإبداع السياسي.
وهنا يمكن القول بأن التنازلات المتعلقة بالسيادة الوطنية غالباً ما تكون نادرةً للغاية، ولا تتم سوى في حالات الإكراه الشديدة، وغالباً ما تكون خطرة للغاية.
هذه الخطوة تعد مشكلة كبرى في الحالة المصرية، حيث منذ الإطاحة بالنظام الملكي عام 1952، جعلت الحكومات المتعاقبة منذ ذلك الحين السيطرة على الأراضي المصرية وتحقيق السيادة جزءاً أساسياً من قضية البلاد ورسالتها، حيث كان هذا الأمر أحد المبررات التي قادت الرئيس المصري -جمال عبد الناصر- في ذلك الوقت لإعلان تأميم قناة السويس في يوليو/ تموز 1956. بعد ذلك، وعقب النكسة الكبرى في حرب يونيو/ حزيران 1967، كانت الرسالة الأساسية لسياسات عبد الناصر هي طرد المحتل بشكل كامل واستعادة السيادة المصرية على سيناء التي تمكنت إسرائيل من احتلالها.
في السياق نفسه، وقّع أنور السادات اتفاقية السلام المثيرة للجدل مع إسرائيل عام 1979 نظير استعادة السيادة المصرية وتحقيق الانسحاب الإسرائيلي بشكل كامل من الأراضي المصري، وهو الوعد الذي تحقق بشكل كامل في 25 أبريل/ نيسان 1982.
كنتيجة لذلك، سيكون من الصعب للغاية بالنسبة للسيسي -الذي يحاول ربط نفسه بشخصية عبد الناصر بقوة- أن يغير من الحالة الوطنية والهوية المترسخة داخل المصريين عبر العقود الماضية من خلال إطلاعهم على بعض المصادر التعليمية أو الحكومية أو الإعلامية التي يسعى من خلالها لانتهاك أحد الثوابت والركائز الأساسية للهوية الوطنية وأن يمر ذلك الأمر بسهولة، وهو ما يتضح بشدة من خلال الشعارات التي أعلنها الكثير من المحتجين والمعارضين لقرار التنازل عن الجزيرتين منذ الإعلان عن الاتفاقية والتي يقول أحدها "الأرض عرض"، أو حتى الشعار المستمد من شعار ثورة يناير "عيش، حرية، عدالة اجتماعية" والذي تحوّل إلى "عيش، حرية، الجزر دي مصرية".
في ثورة المصريين في الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011، اختار المصريون اليوم الذي حدّده حسني مبارك عيداً للشرطة المصرية كيومٍ لانطلاق احتجاجاتهم، ومن المفارقات أيضاً أن تأتي الاحتجاجات المعارضة للتنازل عن الجزيرتين في يوم الاحتفال بتحرير سيناء نفسه.
بالطبع لا يعني هذا الأمر أن نتيجة هذه المظاهرات ستكون كسابقتها، وخاصة مع الإجراءات الأمنية الوقائية الموسّعة، في الوقت الذي لا يختلف فيه اثنان على أن التدهور الاقتصادي هو التحدي الأكبر الذي يواجه المصريين حالياً، وفي الوقت الذي لم تبرز فيه هذه الحلقة أيضاً فاعلية وتأثير العناصر الرئيسية للسرد الوطني على القيادة الحالية، إلا أنها فتحت مساحةً كانت مغلقة من قبلُ للتعبير عن معارضة النظام القمعي.
– هذه المادة تم ترجمتها عن صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، للاطلاع على أصل المادة، اضغط هنا.