كنت أتحدث، قبل يومين، في مقهى ثقافي في القاهرة، لكاتب مصري عن فكرة الدولة. تحدثنا عن فكرة الدولة بدءاً بأفلاطون، إلى أرسطو "حكومة الجماعة"، مروراً بهيغل "الذي أفضت عنده نظرية الحق إلى نظرية للدولة الممركزة، النافذة والقوية، حيث تمنح السلطة لسيد مطلق، يمثل عقل الشعب"، وعرجنا بهوبز بعبارات مختلفة "حكومة، سلطة آمرة ورادعة".
بعد أن تحدثنا ساعتين في التفاصيل، تركنا الحديث عن فكرة الدولة. ركبنا سفينة بلا أشرعة، عبرنا البحر الأحمر، ورحنا نتحدث عن المدينة الخارجة من الحرب، عن مدينة تعز. وهي تخرج، بمتتالية هرمية، من بين يدي المليشيات إلى حضن الدولة.
قال إن من الجيد أن يسعيا، الجيش الوطني والمقاومة الشعبية، كممثلين للدولة في المدينة، لبسط الأمن و.. أشياء أخرى. قلت له، بعد أن نظرت لساعتي: هذا شيء مهم للغاية، وباقٍ من الزمن ساعة. المدينة تعتمد على معالجة أمنية من التحالف الخامل أمنياً، وليس في المدينة من يأبه للموضوع الأمني كإدارة، يقول الكاتب.
قلت له، ما قاله بنجامين فرانكلين: القطة التي ترتدي القفازات لا تصطاد الفئران.
من الممكن، بلا عقلية أمنية، أن تدخل المدينة في الشتات، واللابصيرة، ونوبة حادة من البكاء، يقول الكاتب. بالفعل، ستصبح فكرة البحث عن الأمن كما يبحث أحد عن رأس دبوس في تل كبير من القش، إن لم ينتبه المعنيّون في المدينة إلى الأمر سريعاً.
قلت له إننا نتحدث الآن، بطبيعة الحال، عن فكرة أشبه بفكرة طوباوية، لكننا، في مدينة تعز، بمقدورنا أن نخرج بخريطة أمنية، وتصبح الفكرة براغماتية. في حالة ما خلعنا القفازات وفرضنا الأمن، والأمن الموازي: الأمن الذي يجعل الفئران أمام حتمية التلاشي. فئران الجبل، أو المدينة، المستترة.
في الآونة الأخيرة، شهدت مدينة تعز صراعاً صغيراً، حجماً وزمناً، لكنه خطير وفوضوي، بين إحدى الكتائب التابعة للمقاومة في شارع جمال، ومجموعة من الحمقى. هذا الأمر، بكونه كذلك، يعود، في جانب كبير منه، بأسبابه ونتائجه، لنوعية من المقاومين غير المُدجَّنين: الخارجون عن سيطرة الجهات الأمنية في المدينة لسبب ما.
غير المُدجَّن/الخاضع يتشكل في أشكال ومستويات مختلفة، صعوداً وهبوطاً. فأر بالمدينة، أو في الصف الأول للمقاومة. في تصوري، إن غير المُدجّنين للمقاومة، من تستخدمهم المليشيات، بطريقة أو بأخرى، كانوا سبباً لخروج قائد المقاومة الشعبية من المدينة، بعد أن أحس بالخطر على نفسه شخصياً. أستطيع أن أتكهن بغير هذه الفرضية: إن عاد الشيخ حمود المخلافي إلى المدينة قريباً. كنت أسارر نفسي عندما خرج الشيخ من المدينة، عن احتمالية عدم عودته. وها هي، ربما، ستصبح حقيقة في ظل الوضع الأمني المتردي. الحلقة الأضعف أمنياً، التي تعانيها المقاومة في المدينة حالياً، تتشكل في عدم وجود جهاز أمني موازٍ لما يفعله الانقلابيون في المدينة.
بينما كان أعضاء مؤتمر الحوار الوطني يتحاورون ليخرجوا بمسودة دستور، كان صالح والحوثي معاً يتوزعان في مدينة تعز، كل المدينة، عبر أدوات مختلطة جديدة. أمنياً، وتعليمياً… إلخ. كان صالح يحسب للمدينة المؤرقة له، التي تهزه كلياً إذا عطش ثائر صغير منها، أو قُلب على جنبه الأيمن وهو ينام. فقد سيطر صالح، ومعاونوه الجدد، على جامعة تعز وكلياتها بمنتديات طلابية وأنشطة وتحركات مخيفة على العملية التعليمية.
تحولت شبكات صالح في الجامعة إلى شبكات حوثية، بأقل تكلفة وأيسر جهد. بأنشطة وعمليات سرية وظاهرية معاً، كان الحوثيون يعملون في الجامعة، وبنوا لهم بيتاً من الرخام في قلوب معظم الطلبة وأكاديميي الجامعة: كان حسن زيد ينشط ليلاً على شبكات التواصل الاجتماعي، فقد كنت أراه، في المجموعة الفيسبوكية "جامعة تعز سري للغاية"، يعطي اللايكات المتتالية للطلبة الذين يعملون في المنتديات المستترة. يعطي اللايكات مقهقهاً ومثمّناً الدور الذي يلعبونه في الجامعة.
بعد أن غادرت الجامعة، غاب الثوار الحقيقيون، أو تقريباً: اضمحلت مراقبة الصراع الحزبي في الجامعة من قِبل طلبة ثورة فبراير/شباط تحديداً. وهي تضمحل، تمدد الحوثيون وصالح بلا تكلفة. فقد تكهن الثوار بالجامعة، وفي المدينة، بطريقة ما، أن مسودة الحوار الوطني ستحقق، بخروجها للنور، كل ما يتمنونه وبفكرة الدولة. لم يكن صالح يحسب مسألة الحرب إطلاقاً. لكنه حسب مسألة إن تم حقيقةً تنفيذ المسودة، فهو، في هذه الحالة، لديه أدواته العميقة بمناحي ومؤسسات الدولة في مدينة تعز خاصة. لكن الأدوات قد أفادته في المعركة أيضاً.
ينشط صالح بعملية مخيفة في زعزعة الجانب الأمني بالمدينة الآن، والجانب الحربي أيضاً. إذا نظرت لكتائب المقاومة، وهلةً، فستجد فيها أفراداً غير مُدجّنين وأرقاماً غير صحيحة. عندما تجد الرقم عشرياً، ليس صحيحاً، فستجد صالح يتوارى فيه، أو الحوثي، أو هما معاً. فقد حدث أن قُتلت فئران حوثية مستترة في المدينة. وكانت عمليات القتل تتم، بلا دراية من تنسيقية المقاومة الخاملة أمنياً، عن طريق أعمال فردية وبنباهة من المقاومين، وهذا أمر جيد، لكنه مؤسف من الناحية الأمنية.
على الجيش الوطني والمقاومة الشعبية في تعز أن ينتبها إلى الأمر جيداً، وبلا غفلة على وجه الإطلاق. أن يصنعا هالة كبيرة من الأَمنية، والأمنية الموازية. فالمدينة الخارجة من الحرب يسكن فيها الفئران بكل الزوايا، والمنعطفات والأزقة، وحتى على الجدران.
خرج الشعب التركي إلى الشوارع لإيقاف انقلاب لم يوقفه هو في الأصل، وكان الانقلابيون في تركيا على جاهزية لضرب الشعب بالطيران إن استدعى الأمر. راح المحللون وصبّوا كل المجد للشعب التركي، وتركوا الكواليس. الحقيقة أن ذلك الجهاز الأمني والاستخباراتي معاً هما من أوقفا عملية الانقلاب. أن يكون لديك جهاز أمني واستخباراتي موازٍ للنظام الاستخباراتي الانقلابي، فمن السهل إذاً إيقاف الانقلابات والعمليات المزعزعة للأمن.
يقول كاداريه، عن الاكتفاء في البحث عن أصل الشر: إن الناس عندما لا يكونون مهيئين للتصرف بإزاء شر من الشرور، فإنهم يكتفون بالبحث عن أصله. البحث عن أصل الشر في تعز لا يكفي، يجب إزالته كلياً، وما يجب فعله. الأمر لا يتحمل التأخير، والوضع في المدينة لا يحتمل المزيد من الوجع، والتيه.
في عام 2008م حدث شيء شنيع بشارع عام في العاصمة صنعاء: عملية اغتيال سريعة. راح رجل عجوز، كان على مقربة منّي، يحدثني عن الفتاة براندا، عام 1979م، التي أطلقت الرصاص على 11 شخصاً في مكان ما غرب العالم، وبررت فعلتها بقولها: "لا أحب أول يوم في الأسبوع".
مرت مدينة تعز بأسوأ الأضرار المادية والنفسية من قِبل مليشيا الحوثي وصالح، وتجاوزت هذا، فقد أسندت نفسها بنفسها وراحت تتخلص مادياً من معاناة كبيرة، قائمة نفسياً إلى أمد غير محدود. المدينة تحتاج للبصيرة والجدية من الناحية الأمنية. إن تركتم المدينة تعيش في الظلام، فستشَدون جميعاً إلى الأسفل: ظلامٌ ظلام.. ولا وميض. وسيصبح الأمر كارثياً للغاية.
لمن يهمه الأمر، ومن لا يهمه، من أجل الحياة والسكينة في مدينة تعز: "مسألة الأمن ضرورية، ضرورية حتى الأبد. قدموا لصالح حبلاً كافياً لشنق نفسه بنفسه، وما تبقى تفاصيل. ما تبقى اتركوه لبائع الخضار، أو عشب الموز: من قُتلا باللامبالاة".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.