لا يدرك الإنسان منا عمق الأحداث المتلاحقة حوله، ولا يلقي لها بالاً ربما، إلا ما كان منها يمس خلاصة تجاربه وأوجاعه وانكساراته، فوحدهما الألم والحزن يستحوذان على الحيز الأكبر من مساحة تفكيرنا ووعينا.
كأي فتاة مسلمة نشأت وتعيش في المجتمعات الشرقية، كانت قضية تعدد الزوجات لا تعدو كونها مسألة جدلية لا تطرق مسامعها إلا كلما همَّ أحدهم بخوض غمارها، وتظن نفسها بمنأى عن تجرّع مرارتها يوماً ما، فلم يدُر بخلدي أبداً أن مجرى حياتي سيتغير، ملقياً إياي على حافة الطريق المؤدية لتعدد الزوجات.
اليوم وقد مضت نحو تسعة أعوام على وجودي في مجتمع المطلقات، باتت قضية التعدد شبحاً يطاردني باستمرار، وهاجساً يؤرق فكري نتيجة لتزايد الضغوط التي تنصب عليَّ من كل حدب وصوب، على أثر ذلك أصبحت كالمغناطيس الذي تنجذب إلى مسامعه الكثير من قصص التعدد، فضلاً عن تلك التي أعايشها في محيطي.
لست هنا بصدد الحديث عن جدلية تعدد الزوجات، أو الأسباب التي تُشكل ذريعة للرجل ليُعدد، ما أريد الخوض فيه، ومن خلال احتكاكي ومشاهداتي، هو الأسباب التي تدفع المرأة -وهي كيان كامل لا ينقصه أو يعيبه شيء- للقبول بمشاركةِ أخرى لها في زوجها، بالإضافة للنتائج المترتبة على ذلك.
لا يكاد يختلف اثنان على عدم وجود امرأة تؤيد مجرد فكرة تعدُّد الزوجات، ولكن ما يجبرها رغماً عن رغبتها الحقيقية، تحت وطأة الضغوط الاجتماعية، هو الخيارات المحدودة المفروضة عليها من قِبَل المجتمع المتناقض الذي يسمح للمطلِّق ما لا يمكن أن يسمح به للمطلقة، فتصبح عاجزة أمام سندان غرائزها ومطرقة المجتمع، فترضخ للواقع المؤلم.
إن قبول المرأة للتعدد مسألة نسبية، بمعنى أنها تبقى مترددة حتى يقول النصيب كلمته النهائية.. فأعرف شخصياً مَن كانت ترفض التعدد رفضاً لا نقاش فيه، وإذ بها تقع في براثنه، وأخرى أقنعت نفسها وهيَّأتها بأنها ووفقاً لواقعها لن تكون إلا زوجة ثانية، وإذ بالنصيب يخيّب ظنها وينقذها من سطوة الاستسلام له.
قد يقول قائل إن هناك خياراً أن تبقى المطلقة بلا زوج، ما من شأنه أن يحقق مصلحة جميع الأطراف! أجيب وبكل حزم هذا محض هذيان، ولا يمت للمنطق بصلة، فمن يزعم جاهلاً أن المطلقة تستطيع أن تعيش بدون رجل (طبعاً العكس وهو عيش الرجل بدون امرأة يعد ضرباً من الجنون وغير قابل للطرح)، كمن يدعوها أن تكون مخالفة لسُنة الله في خلقه، وتجتث فطرتها التي جُبِلت عليها، ويحرمها الأمومة التي داعبت وجدانها منذ احتضنت دُميتها الأولى، أم أن عليها أن تحذو حذو الغربيات، وتنتظر سنوات في قوائم الانتظار طلباً لمَنيّ رجل حتى تحقق غريزة الأمومة!
أرجوكم لا تحدثوني عن استثناءات، فإني أحدثكم عن واقع معاش يجب ألَّا نتجاهله أو أن نغضَّ الطرف عنه.
في مجتمعاتنا الشرقية تنشأ معظم الفتيات على حلم وحيد يراودها وهو الزواج من رجل يحقق لها كل ما حُرمت منه وما تحلم به، يحضرني هنا تعليق أحدهم ساخراً -بفكرنا الجني- لذلك تقع على عاتقنا المسؤولية والأمانة بأن نزرع في كل أنثى منذ نعومة أظافرها أن وجود الرجل لا يشكل إلا جزءاً من الصورة الكاملة لحياتها، فالأهل جزء، والأمومة جزء، والأصدقاء جزء.. إلخ.
ويبقى الجزء الأهم هو تكوين شخصيتها المستقلة، وتحقيق ذاتها وكينونتها، فما تحققه من إنجازات شخصية ومهنية هو الأثر الجميل الذي سيُبقيها حيَّة إذا غادرها الجميع.
وفي هذا السياق أثار سخريتي ما سمعته من أحد المؤيدين لتعدد الزوجات أنه يتيح للمرأة أن تكتشف ذاتها، وتسعى لتحقق صيرورتها بسبب الفراغ الذي تركه الرجل بارتباطه بأخرى.
عليك عزيزتي أن تعي جيداً أن الرجل ليس شمسك التي تدورين حولها؛ لتستمدي الضياء الذي ينير جوانب روحك، فإذا ما غاب عنك انطفأت وتقوقعتِ داخل آلامك.
إن من أهم التحديات التي تواجه المرأة المطلقة في مجتمعاتنا الشرقية هي النظرة السوداوية المتمثلة في أنها تسعى وبكل الوسائل المتاحة للحصول على زوج، فشعارها "الغاية تبرر الوسيلة"، بمعنى أكثر وضوحاً إلباسها لقب "خطافة الرجالة"، على حد تعبير أشقائنا المصريين.
ومن صميم تجربتي ما صارحتني إحداهن به: أثناء دراستي الجامعية وترددي على بيت صديقة لي في نفس التخصص لنتذاكر معاً، كانت الجامعة تضج بأحاديث مفادها أنني سأقوم بخطف زوجها، والأمر حتمي الوقوع لا محالة، ولكنه رهن بإشارة الزمن، تخرجت وازدادت أواصر الصداقة بيني وبين تلك الصديقة، بل وأصبح زوجها أخاً لي لم تلده أمي يتوق لزواجي من رجل أرتضيه ويكون أهلاً لي.
عليك عزيزتي أن تعلمي أن الرجال المقبلين على خطوة التعدد عينة من مجتمع الرجال ككل، فلا يغرنك الأسباب التي يسوقها ليعدد، حتى وإن بدت منطقية، كعدم قدرة الأولى على الإنجاب، على سبيل المثال لا الحصر.
عليك أن تدركي أن الرجل لا تملك لبَّه، ولا تأسر قلبه، ولا تسكن ثنايا روحه إلا امرأة واحدة مهما كثرت علاقاته أو تعددت زيجاته؛ لذلك فهو يميل لإحدى زوجاته، وهذا ما أقره الله -عز وجل- في محكم تنزيله؛ إذ يقول: "فلا تميلوا كل الميل".
لذا يترتب على قبولك للتعدد إحدى النتائج الثلاث، وفقاً لردود فعل الأطراف الثلاثة، وقد اختزلتها كالتالي:
– الزوجة الأولى تطلب الطلاق، أو يطلقها الرجل، أو يذرها كالمعلقة، وفي هذه الحالة ستعتريك عقدة الذنب بكل تأكيد.
– على غرار ما هو محتمل أن يحدث للزوجة الأولى: تسعين للطلاق، أو يقوم الرجل بتطليقك، أو تصبحين زوجة مع وقف التنفيذ.
– محاولة الرجل وبدافع ووازع ديني وأخلاقي، وبكل ما أوتي من قوة، وما استطاع إلى ذلك سبيلاً، أن يعدل بينكما، لكنه وبطبيعة الحال يميل بقلبه لإحداكما، وهذه الحالة لا تكاد تذكر.
إن أقصى ألم يمكن أن تعاني منه أي امرأة أن يشاركها زوجها امرأة أخرى، باختصار إذا أردت أن تحطم امرأة نفسياً وتهز ثقتها بنفسها فارتبط بأخرى، هذا مضمون ما أسرت لي به إحداهن فهي قد فقدت الابن والأب والأم، ولكن كل ذلك الألم لا يضاهيه ألم تعدد الزوجات الذي تجرعت علقمه، ولقد تمنت عبثاً أن يؤتى به محمولاً على نعشه مقطعاً إرباً إرباً على أن يقوم بفعلته تلك.
اعلمي أنك ستتألمين بنفس القدر ربما، ولكن ألمك أنت من اختاره وبملء إرادتك، أما الزوجة الأولى فلقد داهمها وباغتها الألم على حين غرة.
أخيراً، إن معادلة تعدد الزوجات تساوي الجمع بين امرأتين، والرجل هو أداة الجمع بينهما، فأي انحياز لطرف دون الطرف الآخر يعد إجحافاً بحقهما، ونظرة أحادية قاصرة لا تتسم بالعمق الكافي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.