الدفاع عن حقوق الإنسان تهمة في لبنان!

وُوجِهَ الاستياء الذي أثاره موت 4 موقوفين سوريين على أثر مداهمة مخيم للاجئين بعرسال في 30 يونيو/حزيران الماضي من قِبل الجيش اللبناني بموجة عارمة من الغضب المضاد. فقد انبرى الغيارى الجدد على الجيش لكلِ من تجرأ على المطالبة بتحقيق شفاف، حتى لو كانت هذه المطالبة أولاً من باب الحرص على الجيش وسمعته الطيبة ومناقبية ضباطه وتضحيات جنوده.

عربي بوست
تم النشر: 2017/07/15 الساعة 10:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/07/15 الساعة 10:35 بتوقيت غرينتش

وُوجِهَ الاستياء الذي أثاره موت 4 موقوفين سوريين على أثر مداهمة مخيم للاجئين بعرسال في 30 يونيو/حزيران الماضي من قِبل الجيش اللبناني بموجة عارمة من الغضب المضاد. فقد انبرى الغيارى الجدد على الجيش لكلِ من تجرأ على المطالبة بتحقيق شفاف، حتى لو كانت هذه المطالبة أولاً من باب الحرص على الجيش وسمعته الطيبة ومناقبية ضباطه وتضحيات جنوده.

كما انهمرت الاتهامات بالتخوين وبالدعم المبطن للإرهاب كالسيل الجارف على كل من سوّلت له نفسه أن يؤكد ضرورة احترام حقوق المعتقلين في دولة يُطمح إلى أن تكون دولة قانون ومؤسسات.

حتى النائب وليد جنبلاط، اضطر إلى حذف تغريدة له على تويتر تقول إن التعذيب لا يولد إلا التطرف، وإنه يجب التمييز بين الإرهاب واللاجئ السوري، عازياً سحب التعليق إلى إمكانية أن يتم تفسيره على غير ما يحتمل.

أما المضحك المبكي في الأمر، فهو أن المزايدين الجدد في حب الجيش هم غالباً الذين يخرقون يومياً بوجودهم الميليشياوي، المتمادي منذ عقود، مبدأ حصرية السلاح بيد القوى الشرعية اللبنانية، وهم الذين يفرضون بقوة السلاح واقع المربعات الأمنية والمناطق الخارجة عن سيادة الدولة.

وما أحداث الشياح/مار مخايل، التي تمت خلالها مواجهة مباشرة مع الجيش اللبناني في 27يناير/كانون الثاني 2008، ثم اجتياح بيروت والجبل من قِبل ميليشيات حزب الله في 7 مايو/أيار من العام نفسه، أو اعتداء عناصر حزبية على مروحية الجيش التي كان يقودها النقيب الطيار سامر حنا فوق تلال سجد الجنوبية؛ ما أدى إلى استشهاده في 28 أغسطس/آب 2008، أو تمزيق إعلان بعبدا (11 يونيو/حزيران 2012) الذي كان أكد ضرورة ضبط الأوضاع على طول الحدود اللبنانية-السورية وعدم استعمال لبنان كمنطلق للحرب في سوريا- ليست كلها إلا حلقات غابرة من مسلسل محاولة تقويض سيادة الدولة والمس بهيبة الجيش، هذا المسلسل المشؤوم المستمر حتى يومنا هذا من قِبل جهة معروفة جداً.

وبالمناسبة، لربما نفع ممتهني التخوين، موزعي الاتهامات العشوائية بالإرهاب، والداعين إلى التنسيق مع النظام السوري لإعادة اللاجئين السوريين من لبنان، تذكيرهم بالقول المأثور في القانون الروماني القديم -الذي ما زال معمولاً به حتى اليوم في كثير من بلدان العالم- والقائل بأنه "لا يمكن لأحد أن يتذرع بخسته"*.

فكيف للجهة اللبنانية المسؤولة بشكل أساسي ومباشر عن تهجير اللاجئين السوريين من مدنهم وبلداتهم وقراهم في سوريا، وكيف لبعض اللبنانيين الذين ارتضوا تدخُّل حزب الله في سوريا ودافعوا عنه وهللوا له، كيف لهم أن يتأففوا بعد ذلك من وجود هؤلاء اللاجئين في لبنان، وأن يلعبوا على وتر التخويف الطائفي من اختلال التوازن الديموغرافي في لبنان الناتج عن هذا اللجوء؟! فضعف الموقف وزيف الادعاء السياسي المبني على تناقض فاقع لا تضاهيهما إلا وقاحة أخلاقية ما بعدها وقاحة!

كما أنه من المؤسف أن نشاهد تفشي العنصرية في شرائح واسعة من الشعب اللبناني على اختلاف طوائفهم، وكيف أن أدبيات اليمين المنفِّرة التي كانت سائدة في بعض الأوساط، بدايات الحرب الأهلية، تطفو مجدداً فوق سطح الأزمة، ربما لاعتقاد البعض أن وصول "رئيس قوي" على رأس الدولة سوف يعيد عقارب الزمن إلى حقبة ما كان يسمى المارونية السياسية تحت حجة استرجاع الحقوق المسلوبة في اتفاق الطائف.

وهؤلاء في أغلب الأحيان يتذرعون بسنوات الاحتلال السوري للبنان لتبرير ما يسمونه تلطيفاً "حساسية" اللبنانيين ضد اللاجئين السوريين، متناسين أن هذه العنصرية أوسع من أن تكون محصورة بالسوريين، وأنها على جميع الأحوال كانت موجودة قبل الاحتلال السوري للبنان، وخصوصاً أن من احتل لبنان في الماضي هو جيش النظام السوري الذي يهجِّر اليوم هؤلاء اللاجئين السوريين إلى لبنان.

ولعل أخطر ما في دلالات هذه الحملة الشعبوية الشعواء، هو سيطرة اللامبالاة على اللاوعي الجماعي للطبقات الاجتماعية اللبنانية التي تتحول تدريجياً إلى "جماهير" بالمعنى الشمولي للكلمة، أي كما عرّفتها المنظِّرة السياسية الألمانية-الأميركية حنة أرندت. تعتبر أرندت في كتابها أسس التوتاليتارية أن "العامل الأهم، في سيرورة التوتاليتارية، هو اللامبالاة الصادقة التي تلازم المنضوين في لوائها"، فهم لا يبالون بمصير غيرهم ممن يمكن أن يتعرضوا للاضطهاد، لا؛ بل يشجعون على ذلك وعلى قمع حرية الرأي بتنصيب أنفسهم عَبَدة للبوط العسكري على وسائل التواصل والإعلام، متلحفين بمقولة إن المؤسسة العسكرية فوق المساءلة، ومزايدين بشعارات مغلوطة وغير ديمقراطية من هذا القبيل.

طبعاً، ليس النظام في لبنان نظاماً توتاليتارياً، ولا يجب إطلاقاً المبالغة واعتبار أن ما جرى في مداهمات عرسال هو مقدمة لنشوء نظام دكتاتوري. ولكن التصرفات الشعبوية بالتزلف والمزايدة الخبيثة في حب الجيش تنمّ عن ضيق رؤية، فهي تسيء بالدرجة الأولى إلى صورة الجيش كمؤسسة تلتزم بقوانين الدولة المكلفة حمايتها، كما يمكن أن تمهد هذه العنتريات الإعلامية الأرضية وتشرع الأبواب أمام كل من يمكن أن يستسيغ العودة إلى النظام الأمني الذي كان سائداً بين 1998 و2005.

ومن المعروف والمجرَّب، حتى في لبنان، أنه في حال تمكُّن النظام الأمني من السيطرة على مفاصل الدولة، فإنه لا يستثني أحدا من قمعه، وإنه إذا كان الدور ممكن أن يكون اليوم على فئة معينة، فالدور سيأتي تباعاً على الفئات الأخرى، ولن ينفع عندها التحسر بمقولة: "أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض".

عادة، إن انقلاب المعايير الأخلاقية لا يبشر بالخير، لا سيما في حال أصبحت المعايير المعكوسة هي السائدة في المجتمع. فعندما لا تعود الأدبيات العنصرية والمفاهيم غير الديمقراطية هي المشكلة، وبالمقابل تصبح المناداة باحترام أبسط حقوق الإنسان هي التهمة والجريمة التي لا تًغتفر، فعندها على الدنيا وعلى لبنان السلام!

ولكن، يبقى الأمل بالجيش وبتضحياته الثمينة هو الأكبر، وبأن اليوم الذي ستقوم فيه دولة القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان بسيادة كاملة على الأراضي والحدود اللبنانية كافة- لا بد أنه آتٍ بإذن الله.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد