وسط كل الدمار الذي لحق بسوريا الدولة، وسوريا الشعب، لا يزال النهج المتبع من قبل الوحدات الدولية على اختلاف أنواعها، قائماً على ترميم الضرر، وعلاج الأعراض، وتنظيف التقرحات، بتجاهل ملحوظ لمسببات وعلل هذه الكارثة الإنسانية التي طالما تبادل النظام السوري والمعارضة السياسية الاتهامات بتسييسها.
لقد غيّب العالم اللاجئين السوريين، لم يخذلهم فقط لأنه لم يتنّبه لاحتياجاتهم، على حد تعبير منظمة العفو الدولية، بل غيّب قضيتهم، وتعامل معهم كجزء من معادلة إدارة الملف السوري المأزوم. تسييس متدرج لملفات عدة، من بينها ملف اللاجئين، الذي تسرد تفاصيله معاناة لا يمكن حصرها بامرأة حامل تلد طفلها "المغيّب" على قارعة الطريق في لبنان، أو بطفل ترك مدرسته ليبيع الزهور وقطع "البسكويت" في الشوارع أوقات الذروة ليحصل ما متوسطه 3.5 دولار أمريكي في اليوم كي يعيل عائلته، أو من تبقى منها، بعد أن اختطفت نيران نظام الأسد أرواح البقية على مرأى ومسمع من عالم لا يزال يعالج القشور، كنوع من التغيّيب الملطّف لملف خطير تصدر، ولا يزال، عناوين الجرائد والصحف في العالم.
لا مجال للوم هنا، فالحقائق تلوم نفسها والتاريخ ومروءة العرب. أطفال سوريا يعيشون بلا مأوى، أو شبه مأوى في ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد، فبعد أن تركوا ألعابهم في سوريا؛ أضحى الأطفال عمالاً بأدنى الأجور في بلادهم وفي الدول المضيفة لهم كلبنان ومصر وتركيا والأردن، وبدأ بعضهم يرتاد حاويات القمامة بعد أن كان يتثاقل في بلاده لرمي قمامة منزله، ليجمع بعضاً من العلب البلاستيكية القابلة لإعادة التصنيع كي يبيعها بأبخس الأسعار. هناك في سوريا لا يزال النظام يقصف الأطفال، نعم الأطفال وحدهم، فمن يستهدف المنازل لا يمكن القول بأنه يستهدف المسلحين، أو حاضنتهم الاجتماعية، لأنه يستهدف الدفء والسكينة والأمان. هذا تفسير معادلة المستبد: مشكلتي مع الأطفال، بدءاً من درعا وانتهاء بحلب، إن لم أستطع قتل آبائهم وأمهاتهم، فسأستهدفهم، قتلاً وإعاقةً واعتقالاً، والناجي منهم، سأصيب جميع مناحي حياته بمقتل حتى يموت جوعاً وبرداً وخوفاً وجهلاً.. سأقتل أحلامهم، وسأجعل من مستقبلهم جحيماً، حتى يحولوا جيلاً ضائعاً لا يستطيع للثورة، أو للتفكير بها، سبيلاً.
الأزمة في سوريا سياسية، لها مردودات سلبية على الجانب الإنساني، ليس العكس، هذه هي الحقيقة التي يتجاهلها الكثيرون، يخبئونها في الصف الثالث من النصوص المكتوبة للخطابات الجماهيرية والتصريحات الصحفية. ولا أكاد أستطيع تشبيه موضوع الأطفال بحساسيته العالية دولياً، إلا بموضوع "الخط الأحمر" الأمريكي الذي رسمه أوباما أمام السلاح الكيماوي لبشار الأسد. فكما سحب أوباما "عدة" اللعب الخطرة من يدي بشار الأسد بعدما استخدمها لقتل شعبه خنقاً، تاركاً مواقع الإنتاج والتخزين البالغ عددها 12 موقعاً لبشار الأسد كي يصنع المزيد لأجل خط أحمر "قد يلزم" فيما بعد، كذلك تماماً وفي سياق مختلف يعالج العالم أعراض أزمة الأطفال السوريين، بلا حلول ناجعة ولا نهاية للمأساة.
ثمانية ملايين ونصف المليون طفل تأثروا بالحرب في سوريا، وثلث أطفال هذا البلد العربي ولدوا أثناء الحرب.! يعيش هؤلاء ظروفاً أليمة، كالفقر والنزوح والحرب. هناك الأطفال المختبئون في أرحام أمهاتهم، يكرهون الخروج إلى عالم مزقته المصلحة ودمرته الأنانية والتزمت قيادته "الديموقراطية" الصمت أمام استبداد أعتى المجرمين.
الأطفال السوريون غُيّبوا، ضاعت مأساتهم الحقيقية في مأساتهم الجانبية الحاصلة بفعل الأولى، وغياب الإرادة الدولية، فالتغييب هنا نوعان، يمارسهما كثيرون، الأول: التغييب بفعل (أن يتم تجاهل القضية المركزية للسوريين جميعاً، بإنهاء حكم الاستبداد، وإبقاء الفعل الموجه لملف الأطفال مقتصراً على معالجة القشور والأعراض كإيجاد المأوى وتحسين ظروف المعيشة وتقديم المعونات الإغاثية)، أما النوع الثاني فيتمثل بـ التغييب بـ "اللافعل" (أن لا تكون هناك أي ردة فعل تجاه قضية الأطفال، فلا معالجة للقشور ولا محاولة لحل القضية المركزية بإنهاء الاستبداد).
لم يعد الأطفال في سوريا بحاجة فقط إلى التعليم والصحة، والحماية والمأوى، وإنما هم بأمس الحاجة لمن يعيدهم أطفالاً يحلمون، يلبسون ثياب العيد، يتأملون السماء بأعين براقة صغيرة، بلا طائرات أو براميل، من دون نيران تتبعهم أينما حلوا، هم في حاجة حقيقية للدعم النفسي والاجتماعي.
هناك مأساة "ضمير" منتشرة حول العالم أشد وأخطر وأعظم أثراً، فالأطفال احتفلوا باليوم العالمي للطفل، مع ذويهم، وبرفقة ألعابهم، وتحت رعاية سلطة منتخبة، وعلى أرض آمنة، بعيداً عن ضجيج المعاناة وضرب الأحلام البريئة في سوريا.
ليس على المرء في عالم غاب عنه الضمير، وغيّبت فيه مآس قد لا تقف تداعياتها على إقليم بعينه، إلّا أن يبعث بنفسه الأمل، بالأطفال السوريين هذه المرة، فهم شعلة ضياء المستقبل، هم بعينهم من سيبنون ما هدمته آلة القمع والإرهاب. فمهما حاول الإجرام قتلهم، ستبقى أحلامهم فوق الاستبداد وأهله، و"التغييب" وأهله.