مابين طرفة عين وانتباهتها انسحبت روسيا الإتحادية بآلاتها العسكرية الضخمة من مقديشوعام1977بعد وقيعة الحرب الصومالية الإثيوبية، التي مزقت أوصال العلاقات الدبلوماسية بين روسيا والحكومة المركزية، بعد أن ساندت روسيا عسكرياً الحلف الإثيوبي، الذي تقهقر أمام الجيوش الصومالية الجرارة، لتصبح المعادلة العسكرية بين الطرفين رأساً على عقب.
الإنزواء الروسي للطرف الإثيوبي كان على حساب الصومال، نتج عنه تبعات وتداعيات، أدت إلى خسارة المعسكر الصومالي لحليفه الإستراتيجي الروسي، الذي أهلها وبدون شك لتصبح قوة عسكرية في شرق أفريقيا، إن لم تكن آنذاك (1970-1990) ضمن الدول الأكثر تقدماً من حيث المجال العسكري والتقنيات الدفاعية والإستخباراتية.
وقبل أن يصبح الصومال رقماً صعباً لايستهان به في المعسكر الإشتراكي، كان له صولاتٍ وجولاتٍ في الغرب بحثا عن داعم وحليف إستراتيجي له، فتارة كانت الجولات المكوكية تنتهي بخيبة أمل، وتارة أخرى كانت الإستجابة من القوى الغربية ضعيفة وتحت مستوى الطموح لدى الصوماليين، فأصبح الخيار الصومالي هذه المرة معانقة جبين روسيا و حدث مالم يكن في الحسبان.
الزيارة التاريخية التي بحث خلالها رئيس الوزارء الصومالي في ستينيات القرن الماضي "عبدالرشيد علي شرماركي" مع الرئيس الأميركي جون كندي، انتهت بأن يكون عرض أميركا خارج السرب والواقع، فأميركا أعلنت صراحة أنها لاتريد جيشاً صومالياً قوياً، وإنما تريد بضعة آلاف من الشرطة يتسلحون بالأسلحة الخفيفة، ولايتجاوز عددههم عن 6 ألف شرطي، فأصبحت الزيارة الصومالية تنتهي بخيبة أمل أيضاً.
غير أن روسيا الإشتراكية مدت الصومال بالسلاح العسكري وأعطته ماكان متوافراً لديها، ودربت الجيش الصومالي، وأحدثت نهضة عسكرية في الصومال، إبان الحكم العسكري الذي قبض الصومال وحكمها بالحديد والنار.
ودفعت الصومال ثمن لجوئها إلى المعسكري الإشتراكي، فزج المئات من الصوماليين بالسجون، وقضي المئات منهم في أحكام جائرة، وقصفت البلاد شمالاً وجنوباً، ولم يستثن المارد العسكري شيئاً، فكان الجميع بمثابة عنزة مسلوخة الجلد على صفيح ساخن ملتهب.
ومع معاناة شريحة من المجتمع من بطش العسكر الذي لاينكره أحد، إلا أن على الضفة الأخرى من ذاك النظام العسكري، كان يصون هيبة الصومال أرضه وشرفه، وكان له كلمة مسموعة في المحافل الإقليمية والدولية، وساهم في العديد من المفاوضات بين دول الجوار، بين أوغندا وتنزانيا، وبين كينيا وتنزانيا أيضاً.
لكن بعد سقوط النظام العسكري عام 91 من القرن الماضي، إنهار الجيش وتفكك إلى قبائل، وأصبحت مهمته هامشية من حماية الدولة إلى حماية أفراد قبيلته، ونهبت ممتلكاته، ولم يترك له شيئا، فأصبحت الجبهات المعارضة التي ولّدها العنف وبطش النظام العسكري لم ترحم بدورهاً صغيراً ولاكبيراً، فسفكت دماء الأبرياء باسم الحرية تارة، وبشعارات جوفاء تارة أخرى.
مرت سنوات عجاف طويلة، والجيش الصومالي لم تقم له قائمة بعد، كالرجل المشلول، فالجار لايريد نهضة عسكرية تهدده مرة أخرى، ولا أميركا تريد جيشاً صومالياً ينازع أحقيته المهضومة ويخاصم شركاءه التقليديين(كينيا) وشرطيّها المخلص (إثيوبيا).
فجهود الأمم المتحدة والإتحاد الأوربي لتدريب الشرطة الصومالية والجيش على مدار عقد، عبثية بإمتيار، فهي تدرب قوات غير موجودة على أرض الواقع، فمشاريع تدريب القوات الصومالية مسلسل يتم بإخراج هزيل لاينتهي، فبناء الجيش الصومالي مهمة صعبة تحتاج إلى تضافر الجهود بين القبائل الصومالية، وليست مهمة يلعب العامل الخارجي دوراً حاسماً فيها.
كما أن مرواغة الغرب للصومال لاتزال مستمرة وعلى مستويات كثيرة، فليست الصومال تعجز عن طلبها بالاستغاثة له، ولاهو يستحي من إطلاق وعوده الرنانة، التي باتت مثل مواعيد عرقوب، فتبريرات الغرب لعدم إفراج وعوده المالية كثيرة، والفساد الإداري في المؤسسات الصومالية كثيرة هي أيضاً، والتقارير الدولية لاتكف عن إدراج الصومال في أسفل قائمة الدول الأكثر فساداً وبؤساً وفشلاً.
إرسال الكرملين مبعوثاً جديداً له إلى العاصمة مقديشو أواخر شهر أذار/مارس، واعترافه بالحكومة الصومالية الفيدرالية كدولة رسمية، والإعتماد على السفير الصومالي لدى موسكو رسيماً لأول مرة، كلها مؤشرات توحي بأن ثمة تحول في السياسة الخارجية الروسية تجاه الصومال، فعودة القيصر إلى القرن الإفريقي، حتماً سيقلب أوراق بعض الدول الغربية وأميركا.
اليوم، التاريخ يعيد نفسه، فنجل "عبدالرشيد علي شرماركي" رئيس الوزراء الصومالي الأسبق (1960-1964 ) يزور روسيا ممثلاً منصب أبيه للصومال، "فعمر عبدالرشيد علي شرماركي" إلتقى بوزير الخارجية الروسية، ليحمل طلب أبيه مجدداً إلى روسياً بعد خمسين عاماً، أي دعم القوات الأمنية الصومالية، والكرملين بدوره استجاب طلب الابن، لكن بوتيرة أخف غير تلك التي تلقاها الأب، فهل ياترى ذلك تحفظ روسي لمقاربة الواقع الصومالي سياسياً وإستراتجياً بسياسات روسيا مابعد الإشتراكية.
مع إدراك روسيا أن الصومال يقبع في وحل من السياسات المضطربة والتوترات الأمنية، إلى جانب غياب جيش صومالي له مؤسساته وميزانيته يستطيع تسلم زمام الأمن بدلاً من القوات الإفريقية، فهل القيصر يشفي غليل الصومال هذه المرة، أم يتابع المشهد عن كثب وينتظر اللحظة الحاسمة، مثله مثل الكثير من دول الغرب وأميركا وحتى الأشقاء من العرب. .
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.