في كتابه المهم المسمى تجديد جورج أورويل، أو ماذا حدث للعالم منذ عام 1950، يذكر الدكتور جلال أحمد أمين عنوانين لكتابين هما حدود الديمقراطية وحدود التعبير المسموح؛ الأول لمفكر اسمه توكوفيل، والآخر لأحد أهم مثقفي العالم أو ضمير العالم، كما يسميه البعض، وهو نعوم تشومسكي، وملخص ما ذهبا إليه أن الديمقراطية التي تعني فيما تعنيه حرية الرأي تتعرض في الحقيقة لقمع تمارسه الحكومات بشكل خفيّ لصالح قوى تملك القرار داخل الحكومة،
ليس هذا فقط بل إن وسائل الاتصال الجماهيرية تملك عبر توجيهها الرأي العام سلطة مستبدة لا تقل غشماً عن استبداد الحكومات، وتمنع تحقيق محاكمة عادلة للأفكار، وتقمع الرأي الحر إن خالف الرأي العام، وهذه ظاهرة قديمة، لكن زادتها فحولة الأدوات الإعلامية المتاحة استبداداً، ويمكن الاستدلال على قدم ظاهرة استبداد الرأي العام ببيت الشعر المنسوب لدريد بن الصمة القائل:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ** فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
يعني أن الرأي العام في قبيلته لم يقبل نصيحته، ولم يعرف رشادها إلا بعد أن أحاط بهم الأعداء، وعليه فيجب ألا يمنع تسلط الرأي العام أحداً من تسجيل رأيه صادقاً، وكما قيل فإن الرائد لا يكذب أهله، أي: لا يخفي ما يظنه الحقيقة حتى يتوافق مع الرأي العام، وهذه ضريبة الريادة.
يسوق جلال أمين مثالاً عن أحد الحاصلين على جائزة نوبل في العلوم، لما أن سطعت نجوميته زار كوريا ويبدو أنه استفاض في تعليقات طريفة، ففي تعليق عن قدرة المرأة على البحث العلمي قال: إن مشاركة بعض النساء له في بعض الأبحاث كانت تعيق العمل البحثي، فهو لا يملك إلا أن يحب إحداهن، أو تحبه إحداهن، أو ينتقد إحداهن فيضيع الوقت بعد ذلك، وهو يكفكف دموعها، ثم عقب أن البحث العلمي يحتاج إلى أن يسير على أرض مستوية ليس فيها منزلقات، ثم اقترح أن تكون هناك معامل بحث ينفصل فيها الرجال عن النساء.
فوجئ الرجل أن الجامعة قد فصلته، وعلّق بأن هذه هي نهايته في البحث العلمي، وتساءل: كيف لم يسأله أي أحد ليترك له فرصة الإيضاح؟!
حقيقة ما حدث أن انتشار قوله في تويتر جعل الجامعة تعاقبه خوفاً من الرأي العام الذي لا يتسامح في الحديث عن المرأة وكأنها كائن بيولوجي مختلف عن الرجل، ولا يتسامح مع أي دعوة للفصل بين الجنسين، أو التقليل من شأن المرأة،
ولذا فإن الجامعة استبقت غضبة الرأي العام وفصلت الرجل من عمله، رغم أن ما تناقلته التويتريات من كلامه يوضح أن معظمهن تعامل مع الموضوع على أنه دعابة لطيفة أو فظّة، ثم جاء زملاؤه ليصدروا بياناً يذكرون فيه أفضاله في تمكين الباحثات من النساء ودعمهن، الذي يؤكد أن عبارته لم تكن إلا من باب الاستظراف، ولكنه الرأي العام.
وجدت ما قرأته مناسباً لفهم ما حدث منذ أيام من فصل مذيعة استباقاً لغضب متوقع من الرأي العام في بلد القناة التلفزيونية التي تعمل بها المذيعة، والسبب تغريدة قد توحي بالاستهزاء، خاصة أن الرأي العام مستفز لما يوجه إليه من عبارات تتشكك في وطنيته وماضيه الوطني بناء على حاضر قد يكون في أقله مثيراً للشبهة، وفي جُلّه لم يختلف عن غيره ممن يعدهم الناقدون مثالاً الوطنية.
ألا يذكركم هذا بحكايات الوسط الفني التي تذكر أن زواج فاتن حمامة من عمر الشريف إنما كان لإرضاء الرأي العام الذي كانت نجمته فاتن حمامة لا تسمح بالتقبيل في مشاهدها السينمائية؟ ولكن في فيلم لها مع عمر قبّلت ما اقتضاه التمثيل بأن تترك للممثل أن يطبع على جبينها قبلة، وجنّ جنون جمهورها ولم تهدأ ثائرته حتى أعلن أنهما متزوجان وإن تأخر الإعلان.
إنها سطوة الرأي العام!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.