مائدة الرحمن هي التسمية التي أطلقها المصريون على ظاهرة تقديم الإفطار الجماعي التي تميّز شهر رمضان عن غيره من شهور السنة، ففي كل حي سواء كان راقياً أو شعبياً، توجد مائدة تدعو الصائمين من الفقراء وعابري السبيل للإفطار، أهمها كانت على مرّ التاريخ مائدة الملك فاروق الذي اعتاد فتح أبواب القصر أمام الفقراء في رمضان.
الليث بدأها.. وابن طولون نشرها في مصر
بدأت أول مرة في مصر على يد الفقيه المصري الشهير الليث بن سعد (94-175ه) "الذي كان ثرياً ومعروفاً بالكرم، فكان يقيم موائد لإفطار الصائمين خلال الشهر الكريم، والتي يقدّم عليها أشهى الأطعمة، خاصة الهريسة (حلوى مصرية) التي عُرفت باسم هريسة الليث.
لكن أول من أقام موائد الرحمن بالشكل المتعارف عليه في مصر حالياً، هو أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية فى مصر، حيث اعتاد في السنة الرابعة لولايته أن يقيم مأدبة طعام في أول أيام الشهر.
ودعا لها كبار دولته والتجار والأعيان وخطب فيهم "إنني لم أجمعكم حول هذه الأسمطة، إلا لأعلمكم طريق البر بالناس، وأنا أعلم أنكم لستم في حاجة إلى ما أعده لكم من طعام وشراب، ولكنني وجدتكم قد أغفلتم ما أحببت أن تفهموه من واجب البر عليكم فى رمضان، ولذلك فإنني آمركم أن تفتحوا بيوتكم وتمدوا موائدكم وتهيئوها بأحسن ما ترغبونه لأنفسكم فيتذوقها الفقير المحروم"، وأخبرهم أن هذه المائدة سوف تظل طيلة الشهر الكريم.
"دارة الفطرة".. مائدة الفاطميين
رغم انحسار ظاهرة موائد الرحمن تدريجياً بعد وفاة ابن طولون، إلا أنها عادت لتوفر للصائمين من الفقراء والمحتاجين حاجتهم من الطعام، في عهد العزيز بالله الخليفة الفاطمي، حيث كان يعد مائدة لإفطار الصائمين في قاعة الذهب بقصره، وعرفت تلك المائدة باسم السماط، وكانت تمتد من الليلة الرابعة من شهر رمضان حتى الليلة السادسة والعشرين، وكانت هذه المائدة مخصصة لكبار رجال الدولة والقضاة.
أما بالنسبة للفقراء فكان يقيم مائدة كبيرة، عند كل من جامع عمرو بن العاص والأزهر الشريف، وكان يخرج من مطبخ قصر العزيز بالله كل يوم 1100 قدر من شتى صنوف الأطعمة لتوزع على الفقراء والمحتاجين.
ولشدة عناية العزيز بالله بالفقراء، وخاصة في شهر رمضان، أنشأ ما يعرف بـ"دار الفطرة"خارج قصره، وكانت مخزناً للمواد الغذائية ومطبخاً من أجل إطعام الناس في شهر رمضان والعيد، وكان يبدأ العمل فيها من أول رجب إلى آخر رمضان، ويقوم العاملون فيها بإعداد الطعام، وصناعة الحلوى، وكان يصل طول الموائد التي تخدمها دار الفطرة إلى نحو 175 متراً.
أهم مائدة عرفتها مصر خلال 100 عام
أما في العصرين المملوكي والعثماني فقد تراجعت ظاهرة موائد الرحمن بسبب انتشار الحروب، لكن رغم ذلك استطاع بعض السلاطين والملوك وقف بعض أموالهم لإطعام الفقراء خلال الشهر، خصوصاً الملك الظاهر بيبرس الذي كان يوزع الطعام على الفقراء في بيوتهم، حيث كان يعطيهم الدقيق والسكر والمكسرات ولحم الضأن.
لكن تظل أهم مائدة عرفتها مصر خلال المائة عام الماضية، هي مائدة الملك فاروق التي كانت تقام كل عام، حيث كانت تفتح أبواب القصر أمام الفقراء لتناول الطعام على المائدة الملكية، لكن بعد الحرب العالمية الثانية قرر الملك فاروق تعميم موائد الإفطار في كافة المدن المصرية، وأيضاً كان يقوم بتوزيع بعض المال مع قدوم الشهر الفضيل.
لكن بعد ثورة يوليو 1952 أصبحت موائد الرحمن تقام تحت رعاية بنك ناصر الاجتماعي، وأيضا ظهرت أول مائدة رحمن قبطية في حي شبرا، عام 1969 والتي أقامها القمص صليب متى ساويرس راعي كنيسة مار جرجس لإفطار المسلمين والمسيحيين في شهر رمضان بميدان الأفضل بشبرا.
وفي العصر الحديث بدأت تزدهر تدريجياً وأصبح شكل موائد الرحمن مختلفاً فكثير من المساجد أو الجمعيات الخيرية أصبحت تقيم موائد للإفطار، كما أن هناك أثرياء يقيمون بدورهم موائد رحمن سواء في الأحياء الراقية أو الشعبية.
موائد أهل الفن
مع بداية الألفية الجديدة، وتحديداً في السنوات الأخيرة ظهرت موائد الرحمن الخاصة بالفنانين والراقصات التي أثارت جدلاً واسعاً بين الناس ورجال الدين، والذين أيد بعضهم فكرة إقامتهم للمائدة والبعض امتنع عن إبداء الرأي.
من أشهر موائد الفنانات مائدة فيفي عبده الشهيرة، في شارع جامعة الدول العربية، وأيضاً موائد دينا، شيريهان، روبي، بوسي سمير، شيرين عبد الوهاب بعضهن اخترن أماكن راقية لإقامة موائد الرحمن، وبعضهن فضلن إقامتها في الأماكن الشعبية.
فالفنانة الاستعراضية شيريهان تقيم كل عام مائدتين، الأولى بجوار عمارة "ليبون" الشهيرة بحي الزمالك، أما الثانية فأمام قصرها الشهير بـ"المنصورية"، وهي بذلك فضلت الأماكن الراقية مثل فيفي عبده.
على عكسهما أقامت المطربة الشابة شيرين عبد الوهاب مائدتها في حي البساتين الذي نشأت فيه، وكلفت والدها سيد محمد عبد الوهاب بالإشراف بنفسه على المائدة، وأيضا هناك مائدة الراقصة"بوسي سمير" التي اختارت منطقة"بولاق أبو العلا"، وتحظى المائدة باهتمام مباشر منها حيث تشرف عليها بنفسها.
الاقتصاد يطيح بطموح الغلابة
رغم ازدهار موائد الرحمن لدى الفنانين، لكن عدد الموائد انخفض بشكل ملحوظ في العامين الماضيين، نتيجة الأوضاع الاقتصادية السيئة، والارتفاع المستمر في أسعار السلع التموينية، وأيضا لإغلاق عدد من الجمعيات الخيرية الإسلامية، التي كانت تقيم الموائد، وتقدم المساعدات المادية والعينية للفقراء من خلال شنط رمضان، وكانت هذه الجمعيات منتشرة في كافة محافظات مصر.
فلم يعد من هذا الجمعيات سوى القليل، وأشهرها جمعية مصطفى محمود في شارع جامعة الدول العربية، والتي تقيم مائدة لإفطار الصائمين، بالإضافة إلى أنها توفّر وجبات للفقراء طيلة العام، وكذلك بنك الطعام وجمعية الأورمان.