يحكى أن: لدي فكرة..!

اندهشت زوجتي وهي تراني مثل التلميذ أدرس وأقرأ وأستعد، وعلى طاولتي العديد من الكتب والمصادر محاولاً ترتيب أفكاري وصياغة منهج دراسي، قالت "لا أفهم كيف تفعل ذلك بعد كل هذه السنوات من العمل في هذه المهنة"، كررت وجهة نظري، القدرة على العمل لا تعني القدرة على تدريسه، ثم حالت ظروف الانقلاب في مصر دون أن يتم الأمر

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/17 الساعة 10:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/17 الساعة 10:40 بتوقيت غرينتش

زارني رضا، صديق العمر وإن كانت معرفتي به بدأت قبل عدة سنوات، مقترحاً تأسيس مركز للتدريب، أجبته رافضا، "قدرتي على صناعة فيلم وثائقي لا تعني بالضرورة قدرتي على تعليم الناس هذه المهنة"، دافع عن وجهة نظره بقوة، أغواني بجيل الشباب، الطرف المستفيد من خبرة لا بأس بها تنقل إليه، هو يعرف أن هذا الأمر يستهويني، مضيفاً "إذا مارسته مرة فسوف تستهويك المسألة"، وعدته بدراسة الأمر وأنا في غير حماسة.

هيثم دعاني لدورة في "أون تي في"، أبلغته أنني رفضت مجرد التفاوض بخصوص هذا الأمر مع جهات متعددة، لكن لسبب غير مفهوم أقنعني بالمحاولة، بدأت أعد نفسي للأمر، اندهشت زوجتي وهي تراني مثل التلميذ أدرس وأقرأ وأستعد، وعلى طاولتي العديد من الكتب والمصادر محاولاً ترتيب أفكاري وصياغة منهج دراسي، قالت "لا أفهم كيف تفعل ذلك بعد كل هذه السنوات من العمل في هذه المهنة"، كررت وجهة نظري، القدرة على العمل لا تعني القدرة على تدريسه، ثم حالت ظروف الانقلاب في مصر دون أن يتم الأمر.

ياسر كان الثالث، والدعوة من الصديق المصري كانت موجهة لي في المغرب، وافقت، استبد القلق بي، حتى إنني استيقظت ليلة اليوم الأول للدورة في الثالثة صباحاً ولم أنم بعدها، يخيفني حد الرعب أن يثق بي أحدهم ويأتي محملاً بأمانيه في شخصي أن أحقق له عبر الدورة إنجازاً عظيماً في حياته.

معاوية "الزول" السوداني كان صاحب الدعوة التالية، ومنحني فرصة لا تعوض بدعوتي إلى رواندا حيث أقيمت الدورة في بناية المكتبة العامة في العاصمة كيغالي، الفرصة كانت في اكتشاف أن هذا البلد الأفريقي الذي زرته عام 1997 إبان مذابحه المروعة التي راح ضحيتها ما يقرب من مليون إنسان قد نهض، وتجاوز المأساة -التي نعيش نحن الآن مثيلتها- بمصالحات قانونية وقبلية.

باتت الصورة واضحة أمامي، الدورات التدريبية أمر رائع من حيث المبدأ، وبوسعها تهيئة الراغبين في الولوج إلى هذا العالم عبر جرعة عملية، لكن المشكلة الأولى أن المتدربين يخوضون هذه الدورات معتقدين أنهم سيدخلون من هذا الباب ليخرجوا من الباب الآخر مخرجين وصناعاً كباراً للأفلام الوثائقية، وستفتح لهم أبواب العمل هنا وهناك، ولذا لا أترك فرصة إلا وأقول إن الدورة -أي دورة- ليست إلا خطوة واحدة على طريق طويل.

المشكلة الأخرى تأتي من المدربين أنفسهم، فإما أن بعضهم لم يمارس هذه المهنة بنفسه، ولم يخض تجربة تليها تجربة، وإنما يقوم بمهمته معتمداً على معلوماته النظرية، وإما هو لا يدرك طبيعة دوره جيداً، ويتعامل مع المتدربين كمحاضر في جامعة، فيمدهم بمعلومات نظرية عن الفيلم الوثائقي وتاريخه، ومدارسه وأنواعه.

عبر مواقعي على منصات التواصل الاجتماعي وردتني الكثير من الأسئلة التي ساعدتني على فهم ما يبحث عنه المتدربون ومن ثم في صياغة منهج خاص للدورة المطلوبة في صناعة الفيلم الوثائقي، وكانت كلها تصب في سؤال رئيسي، "كيف نضع أقدامنا على أول الطريق"، شريحة لا بأس بها منهم لم تدرس الإعلام، أي أنهم مثلي، لذلك اعتبرت أن مهمتي الأولى هي إرشادهم إلى هذا الطريق، ومساعدتهم في كسر حاجز الخوف حتى يبدؤوا مشوارهم الطويل.

عادة وعندما أخوض تجربة جديدة أبدأ بدراسة تجارب الآخرين، وهذا ما فعلته، ومن ثم تكاثرت الأسئلة في ذهني، لماذا يرتدي المدرب رباطة العنق، ويفعل مثله المتدربون، ليخوضوا دروسهم بين جدران أسمنتية، بشكل تقليدي صارخ، وإذا كان هذا الأمر يصلح في بعض التخصصات فهو لا يصلح بلا شك فيما يخص الفيلم الوثائقي الذي يعتمد على صيد فكرته من الواقع.

لدي فكرة..!
لماذا لا أقوم بالتدريب في مكان طبيعي، غابة أو ريف مثلاً، لماذا لا تقام الدورة في مخيم هناك، حيث أكون والمتدربون معاً على مدار الساعة لنحو عشرة أيام، نحكي نظرياً، ونطبق عملياً، ونتداول بخصوص ما مر بي من تجارب، نعيش معا، نتغلب على الظروف المحيطة، ونتعلم العمل الجماعي والانصهار فيه؟

وإذا كنت أردد الحكمة العظيمة "كن ممتعاً وأنت تقول الحقيقة" في إشارة إلى التشويق والمتعة اللذين يجب أن يتحلى بهما الفيلم الوثائقي، فلماذا لا نتمتع ونحن نتعلم "كيف نمّتع الآخرين ونحن نقول لهم الحقيقة؟"، ما المانع في أن تكون مخيماتنا في أماكن رائعة، شرط ألا تتحول إلى دورات ترفيهية.

خضت التجربة الأولى في تركيا، سافرت إلى عدة مناطق إلى أن اخترت ما رأيت أنه مناسب، مخيم في منطقة ريفية، اكتملت كل الأسباب لإنجاح المخيم، بقي أمر واحد مخيف بالنسبة لي، فأنا ممن يقدسون أمر الخصوصية، وفي الدورات السابقة كنت أنهي عملي في الخامسة مساء، وأبقى حتى الصباح وحدي في غرفة فندقية بعيداً عن فندق المتدربين، فكيف لي أن أعيش متجاوزاً هذه الخصوصية؟

غير أن التجربة نجحت، ومنحني المشاركون وقتاً ممتعاً وسهل التعايش بيننا على مدار الساعة أمر الإرسال والاستقبال بين المدرب والمتدربين، وخجلت وأنا أكتشف أن منهم من أتى من خطوط النار في سورية آملاً أن يتعلم شيئاً يفيد بلاده وقضاياها، بل عمد بعضهم إلى إقامة دورات خاصة بعد عودتهم، وكأن الفكرة تكبر.

لدي فكرة..!
لماذا لا أسير قدماً في الأمر وأتجاوز تركيا لتكون التجربة التالية في أفريقيا حيث الحياة الحقيقية، لماذا لا أعود إلى رواندا، خصوصاً وإن حكاياتها لا تنتهي، وبالأخص بعد تجربتها المريرة ونجاحها في أن تقفز لتكون إحدى أكثر الدول الأفريقية تقدماً، رواندا نموذج صارخ بالنسبة لي مهنياً وفكرياً، سأدفع خلاله المتدربين العرب إلى دراسة هذه الحالة، كيف تمت المصالحة، كيف تمكنوا من تخطي المحنة.

في الحقيقة انطلق المخيم قبل موعده بكثير، فالتجربة بدأت عندما اضطر الراغبون في الالتحاق بالدورة إلى دراسة الأمر ليقرروا أبعاد المغامرة بالسفر إلى بلد في قلب أفريقيا لا يذكر إلا وتذكر مذابحه، ودخل بعضهم في نقاشات حادة مع ذويهم القلقين على سلامة أبنائهم، إلى مشوار الحصول على التأشيرات وإيجاد أفضل الطرق للوصول إلى رواندا، بعضهم قرر أن يأتي قبل بدء المخيم بيوم أو يومين ليكتشف بنفسه ملامح هذا البلد.

الدهشة -التي هي عندي شرط الحكاية- كانت تتحكم فيهم واحداً واحداً، كل ما قرأوا عن هذا البلد أو شاهدوه كان مثيراً لهم، ومن ثم اعتبرت أنني حصلت مقدماً على ضمان لنجاح المخيم قبل أن يبدأ، الفرحة التي كنت أراها في عيون المتدربين كانت أبلغ تقييم للتجربة، تلك التي نقلتهم من بيوتهم الآمنة في تونس والرياض والقاهرة وغيرها إلى أدغال أفريقيا، يلتقون بالضحايا والجناة على حد سواء، ويخوضون تجربة التصوير في الأحراش والغابات.

لم يكن مخيم رواندا مجرد الجولة الثانية في هذه التجربة ، لقد تجاوز ذلك إلى ما يشبه المهرجان المعني بالفيلم الوثائقي، الفعاليات التي صاحبته، والاحتفاء به في بعض وسائل الإعلام دفعا به ليكون أكبر من مجرد "دورة تدريبية"، لقد كبرت الفكرة حتى أكثر مما كنت أتصور.

لدي فكرة..!
تكاليف إقامة مثل هذه المخيمات باهظة جداً، وفي المقابل فإن المبلغ المرصود للالتحاق يمثل مبلغاً كبيراً في بعض الدول العربية، والزملاء الذين يعملون معي في إدارة المخيم، وحيد وطه ومهند ومريم وهيثم لن يكون بوسعهم الاستمرار في العمل تطوعاً أو بمقابل رمزي، لذا سعيت إلى تأمين رعاة يتولون بدورهم التقليل من قيمة الاشتراك، لكنني أعترف بأنني لم أنجح حتى الآن في ذلك.

أفكارنا مثل أطفالنا، نلدهم صغاراً ثم يكتمل نموهم مع الأيام والتجارب، لا تولد فكرة كاملة من أول لحظة، وما حدث شجعني أكثر، لنتجاوز الحسرة على ما وصل إليه إعلام الاستخاف والتفاهة، إلى المشاركة في صناعة جيل جديد بانتماءته المختلفة.

لماذا لا تتمرد أفكارنا على الواقع ؟، مثلاً لماذا لا نكسر الطوق المفروض على صناع الأفلام الوثائقية في عالمنا العربي عملاً على تسويقها بعيداً عن "عقود الإذعان" التي تفرضها بعض القنوات علينا، لماذا لا يعمل المستقلون على تأمين سوق كبيرة للأفلام الوثائقية، لماذا لا نستغل منصات التواصل الاجتماعي في ذلك، لماذا لا يتحد المخلصون من صناع ومنتجي الأفلام الوثائقية في كيان يمكنهم من فرض شروطهم العادلة؟

ثمة أفكار عديدة تدور دواخلنا جميعاً لكننا نتباطأ في الإفصاح عنها، ونتردد في العمل بها والدعوة إليها، وهنا مكمن الخطر، وكما قال الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف: لا تخبئ أفكارك.. إذا خبأتها فستنسى فيما بعد أين وضعتها!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد