الحاسة المهجورة، سر السلام، لو كانوا يسمعون!

إنه يرفع صوته ويهدد ويتوعد ويرغي ويزبد، فلا شيء يمكنه سماعه سوى صوت ذاته الأنانية المتسلطة، يعنّف نفسياً وجسدياً، فتهدم العلاقات وتدخلها شوائب الخيانة ويتسرب إليها الدخلاء، وتنهار ويدفع الجميع الثمن؛ لأن أحد الشريكين رفض أن يكون صديقاً يستمع ويحتضن ويتفهم المشاعر والأفكار والاحتياجات؛ ولأن الآخر فشل بكل الوسائل في جعل شريكه يسمع صوته ويستجيب له باحترام وتفهم فقط!

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/10 الساعة 04:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/10 الساعة 04:58 بتوقيت غرينتش

كم نحن بحاجة إلى مَنْ يسمعنا

السمع هو حاسة من حواسنا الخمس المهمة جداً، والتي لا يبدو أنها تنال الاهتمام الذي تستحقه، ولا تستخدم أبداً الاستخدام النافع.

فبرغم ما يبدو أننا دائماً نسمع الناس، نسمع الأغاني، نسمع البرامج، إلا أننا نعاني من مشاكل كبيره في السماع والاستماع!

لو تأملنا قليلاً، قليلاً فقط، لوجدنا أن وراء أغلب مشاكلنا النفسية والاجتماعية والسياسية وحتى الفكرية والعملية، أن لا أحد يسمع!

كم من المراهقين يبحثون عن الإشباع العاطفي في علاقات قد تعرضهم لمخاطر كبيرة، لأنهم لم يجدوا أباً أو أماً يستمعون إليهم عندما يتحدثون، ويشاركونهم اهتماماتهم، ويتفهمون مشاعرهم، لو لم يوافقوهم عليها تماماً!

كم فتاة استجابت لمطالب شاب تافه يريد أن يستغل أنوثتها لتسمع منه كلمات حب وإعجاب واهتمام لم تسمعها في حياتها من أمها ولا أبيها ولا أخيها ولا عمها ولا خالها!

لم يشعرها أحد منهم بأنها مهمة، يستمعون إليها، يهتمون بها، يستجيبون لها، لذلك بحثت عن بديل يشبع حاجتها للاستماع والاهتمام، بطريقة غير مشروعة!

لو عدنا لسنين المراهقة لوجدنا أن الأشخاص الذين كانوا أكثر تأثيراً فينا، وأكثر قرباً منا هم مَنْ كانوا يستمعون إلى صوتنا الداخلي الذي لم نكن نتردد في أن نفتح قلوبنا لهم به بكل ثقة. وأنه مهما كان فرق العمر بيننا كبيراً، ومهما تباعدت المسافات بيننا فهم من كانوا ينالون ثقتنا؛ لأنهم كانوا يستمعون، ويتفهمون، ويهتمون ويستجيبون.

طبعاً هذا يشكل أساساً لعلاقات صداقة تقوم على الاحترام المتبادل. فالصداقة أيضاً في جوهرها استماع للآخر وتفهم وتقبل لمشاعره وأفكاره. ومن لا يكون موجوداً ولا مستعداً ليسمع ويتفهم ويحفظ سر صديقه فليس بصديق أبداً! وكم يتساقط الأصدقاء، كم يتساقط الآباء والأزواج والحكومات بسبب عدم الاستماع والتفهم والاستجابة!

فالحكومات التي تحترم الإنسان تستجيب لنداءات ورسائل البشر ولا تتأخر، بينما قد يتجاهل أصوات غيرهم ورسائلهم كثير من الأهل والأصدقاء، فتنهار الثقة وتنتهي العلاقات!

كم من العلاقات الزوجية تنهار لأن أحد الزوجين أو كلاهما كان يرفض الاستماع للآخر والاهتمام بمطالبه والاستجابة لها، أو على أقل تقدير تفهمها واحترامها وتقدير مشاعره!

إنه يرفع صوته ويهدد ويتوعد ويرغي ويزبد، فلا شيء يمكنه سماعه سوى صوت ذاته الأنانية المتسلطة، يعنّف نفسياً وجسدياً، فتهدم العلاقات وتدخلها شوائب الخيانة ويتسرب إليها الدخلاء، وتنهار ويدفع الجميع الثمن؛ لأن أحد الشريكين رفض أن يكون صديقاً يستمع ويحتضن ويتفهم المشاعر والأفكار والاحتياجات؛ ولأن الآخر فشل بكل الوسائل في جعل شريكه يسمع صوته ويستجيب له باحترام وتفهم فقط!

كم من المليارات تدفع سنوياً في الغرب لتكاليف العلاج النفسي والأمراض الجسدية ذات المنشأ النفسي من السرطان، وحتى ضعف المناعة والتوتر والقلق الذي يسبب البدانة والسكري والضغط وأمراض القلب وأوجاع الظهر والمعدة والأمراض الجلدية، وأغلبها نفسي المنشأ!

كل هذه الأثمان الباهظة التي تدفع لعلاج الجسد، أو للذهاب لطبيب نفسي أهم ما يفعله إنه يستمع!

يستمع للمريض، يستمع لصوت الإنسان الحقيقي الذي يتكلم، والذي لم يجد أباً ولا أماً ولا أخاً ولا أختاً ولا صديقاً حقيقياً يستمع إليه!
الكل مشغول، الكل لا يجد من يستمع إليه!
الكل متوتر! الكل مريض!
غالباً بشكل أو بآخر!

في كتاب العادة الثامنة لستيفن أر . كوفي، يقول إن سعادة الإنسان تتحقق في إيجاده لصوته الداخلي، عندما يستمع الإنسان لذلك الصوت الذي يلبي حاجة مجتمعه، ويطلق طاقات عقله، ويلهب حماس قلبه ويرضي ضميره، فإنه يحقق القيادة والتغيير الحقيقي الذي ينطلق من ذاته إلى مجتمعه.

إذن هو يستمع لصوت الحاجة في مجتمعه ويستمع لصوته الداخلي في ذات الوقت!
إنه يستمع!
الصوت الداخلي، من يستمع إليه حقيقة ويتنبه له يصبح قادرًا على قيادة ذاته وقيادة العالم.

ذلك الصوت الذي حين يكون سلبياً فإنه يدمر الإنسان، وحين يتنبه له المرء ويحاول قيادته والاستجابة له فإنه يغير واقعه ويغير العالم.

الاستماع الفعّال للذات وللآخر والاستجابة الحقيقية لهم، هو صوت الشجاعة والصدق والاعتراف للنفس وللآخر بالحق بالوجود والحياة والكون، والتعاطف مع تلك الحقوق.

السياسيون والعسكريون وقادة العالم اليوم، لو كانوا يستمعون، لسمعوا أصوات استغاثة الناس من الحرب والقتل وعنف نظام الاستبداد المسلط على رقاب العباد في سوريا ومصر واليمن، ولأوقفوا هذه الحروب المدمرة التي انتقلت ساحاتها إلى بلادهم أيضاً!

لكنهم لا يستمعون، ولا يريدون أن يستمعوا لصوت الناس الحقيقي، ولا يريدون أن يوقفوا المجرم الحقيقي الذي فتك بالبلاد والعباد، بل يزيدون القصف اشتداداً والنار لهيباً، في مطاردة عدو مثل "داعش" صنعوه هم، وغذوه هم، ونفخوا في ناره هم، ليجعلوا منه حجة لاستئصال كل ما تبقى من إسلام، وتدمير كل ما تبقى من بشر على أرض بلادنا بل وحتى خارجها من كل من يتكلم العربية أو ملامحه شرق أوسطية أو حتى تضع على رأسها حجاباً!

ولو كانوا استمعوا ووعوا وعرفوا الضريبة الباهظة التي سيجعلون بلادهم وبلادنا تدفعها، كانوا استأصلوا بسهولة وبسرعة رأس الإجرام، رؤوس أنظمة القمع الأسدية والسيساوية والإيرانية الاستبدادية في دولنا.

هذا ما لا يريدون أن يسمعوه أبداً ولا أن يفهموه!

في المقابل هناك من يعتبرون أنفسهم قادة سياسيين وعسكريين في بلادنا أو يدعون تمثيلها، يرفضون أيضاً أن يستمعوا لآهات المعذبين الذين يريدونهم أن يتوحدوا لتتوقف المعاناة وتنتهي الحرب ويعيشوا في سلام.

يرفضون أن يستمعوا لمطالب العدالة ووقف الظلم والانتهاكات بحق المرأة والطفل واليتيم، والضعفاء الذين تسرق أموال إغاثتهم ويتستر على لصوص لقمتهم وسكنهم في الحصار والبرد.

يرفضون أن يسمعوا ويفهموا حاجات الناس في العدل والإنصاف ووقف الفساد واستئصال شأفة المفسدين التابعين لأجندات دولية أو عربية، وآخر همهم، هو حاجة الناس الحقيقية في الداخل وفي المخيمات وبلاد اللجوء، إلى كرامة وعدل وأمن وإنصاف وحقوق محفوظة لا ينتهكها صاحب سلطة أو منصب أو مال أو جمال!

هم أيضاً لا يسمعون، ولا يريدون أن يسمعوا صوت حاجة الناس الحقيقية، لا يسمعون سوى صوت مصالحهم الأنانية الضيقة!

﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾
[ سورة الفرقان: 44 ]
﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36]

إن السر في السعادة يبدأ من سماع واستماع واستجابة، وكذلك العلاقة الخاصة بين الإنسان وربه، سرها أنه قادر أن يسمعه ويستجيب له متى دعاه وكلمه وناجه، ولو كان لا أحد من الناس يستمع إليه، فالله يسمعه ويشعر به وهو أقرب إليه من حبل الوريد.

وكذلك فإن خلاص الإنسان وراحته والرحمة تتنزل عليه عندما يستمع: ﴿وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون﴾.

فهل يمكن أن نرحم نحن أنفسنا بل ونرحم بَعضنا ونرحم مجتمعاتنا وننقذ مصائرنا ونستمع لبعضنا؟

هل يمكن أن يستمع لنا أصحاب القرار والسياسيون المجتمعون والمتفرقون، ويرحمونا ويرحموا أنفسهم؟

ربما مازلنا بحاجة لفعل الكثير لجعلهم فقط، يسمعون صوتنا.

الحاسة المهجورة، التي يصمون آذانهم عنها، هي سر سلام الذات والعالم لو كانوا يسمعون!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد