من غير المستبعد أننا سنرى دولاً في السنوات القليلة القادمة تسد حاجتها من الطاقة كاملةً عبر مصادر متجددة، فلم نكن نتصوّر قبل سنوات كثيرة عدّت، أن الشمس ستكون هي المصدر الأساسي التي تُركز على استثمارِ ضوئها كبريات الدول المُتقدمة والصناعيّة والنامية، كالولايات المتحدة والصين واليابان والهند وألمانيا والهند.
لكن هذا ما حصل، وللأسف أنه جاء متأخراً، فلقد بات ضوء الشمس الشيء الأساسي الذي تُركز عليه الدول من مشرقها إلى مغربها مُدركة أهمية الطاقة المتجددة في المستقبل، ويكاد لا يخلو أي مخطط من مخططات الدول والرؤى المستقبلية التي تتبناها من مشاريع للانتقال من طاقة الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح وطاقة البحار (المد والجز)، أو بما تسمى أيضاً بالطاقة الخضراء الصديقة للبيئة.
لقد أردك العالم متأخراً ثمن عدم استثماره الطاقة من مصادرها النظيفة والمستدامة، ودفع ثمن ذلك ارتفاع غير مبسوق في درجة حرارة الأرض عما كانت عليه قبل عقود، وهاجس خوف متزايد بسبب ذوبان أجزاء كبيرة من الجليد في القطب المتجمد الشمالي، عدا كوارث بيئية وصحية كبيرة وفيضانات أغرقت مدناً كاملة وثوران براكين هجّرت الآلاف من البشر جرّاء الاحتباس الحراري الناجم عن تزايد انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون الملوث للبيئة، وعدم اتباع طرق بديلة ونظيفة لتقليل هذه الانبعاثات الضارة، ولا يزال إلى اليوم هناك بعض الدول تبحث عن تشييد منشآت نووية جديدة لتوليد الطاقة.
بينما هناك دول على الضفة الأخرى تدرس الاستغناء عنها، وهذا ما يدعو للاستغراب فعلاً، وهنا لا بد أن نستذكر كارثة تشيرنوبيل النووية والتي تعد أكبر كارثة نووية شهدها العالم في أوكرانيا، وما زالت مأساتها عالقة في الأذهان ومحظورة على السكان إلى يومنا هذا.
وللتخلص من آثارها وإعادة الحياة لتلك المنطقة المنكوبة والمهجورة تبحث الحكومة الأوكرانية تحويل منطقة تشيرنوبيل إلى محطة للطاقة الشمسية.
دفع ذلك كله كبريات الدول في العالم للتركيز على مصادر الطاقة المتجددة وطريقة استثمارها بالشكل المطلوب، والبحث عن بدائل للطاقة أكثر توفيراً وأقل تلويثاً للبيئة وأكثر أمناً؛ لذا أصبحنا نرى الدول تتسابق اليوم بوضع خططها لإنجاز محطاتها الشمسية ودراسة فترة وجدوى إنشاء هذه المحطات وقدرتها على ما سوف تكون عليه في السنوات العشر المقبلة، وتكون بديلاً عن الوقود التقليدي، وهذا ما كان المفروض أن يكون قبل مائة سنة ماضية، فقد أُنشئت أول محطة شمسية في العالم في مصر بمساعدة المهندس الأميركي فرانك شومان في خريف عام 1911، ولكن لم يدم عمل هذه المحطة أكثر من سنة، بسبب الإهمال لها من قبل الوزارات المعنية لتنميتها واستمرارية عملها، وبسبب انخفاض أسعار النفط والتكلفة التشغيلية المرتفعة لهذه المحطات آنذاك.
أما اليوم ومع الثورة الصناعية المزايدة في العالم ومع وجوب تقليل أضرارها من غازات ملوثة للبيئة، استدرك العالم أنه أصبح من الضروري الاتجاه باتجاه مصادر طاقة بعيدة عن مصادر الطاقة الملوثة والخطرة كالمفاعلات النووية.
وهذا ما نرى بوادره اليوم في أغلب دول العالم عربياً وغربياً، فقد أثبتت مصادر الطاقة المتجددة فاعليتها وجدوى استخدامها أكثر من مرة وقدرتها على منافسة الوقود التقليدي في دول كثيرة كتشيلي في أميركا اللاتينية، التي وزعت الكهرباء مجاناً لمواطنيها بسبب فائض الكهرباء المولدة من الطاقة الشمسية لمدة 113 يوماً.
وفي البرتغال اشتغلت الكهرباء من تاريخ السبت 7 مايو/ أيار إلى يوم الأربعاء 11 ولمدة 107 ساعات عن طريق مصادر الطاقة المتجددة دون اللجوء للوقود الأحفوري، وفي ألمانيا أيضاً التي دفعت المال وطلبت من مواطنيها في 8 مايو الماضي استخدام الكهرباء المُنتجة والفائضة عن الحاجة.
وفي بريطانيا التي تفوّق فيها إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية على الفحم في شهري مايو ويونيو/حزيران من هذا العام، وحققت بريطانيا ولأول مرة زيادة من الطاقة الشمسية المغذية للبلاد قدرها 50 في المائة، لتحقق نحو 1336 جيجاوات/ ساعة من الكهرباء المتولدة من الطاقة الشمسية، مقابل 893 جيجاوات/ ساعة من الكهرباء الناتجة عن الفحم.
وفي أستراليا توفر الطاقة الشمسية 1 مليار دولار في فواتير الكهرباء سنوياً، وفي أسكوتلندا توفر مصادر الطاقة المتجددة لديها نصف ما تحاجته البلاد من الكهرباء وستحقق هدفها بالاعتماد على الطاقة المتجددة كلياً قبل العام 2020.
وبعد أن اتضحت قدرة مصادر الطاقة المتجددة على منافسة الوقود الأحفوري في توليد الطاقة وإمكانية تلبية حاجة المدن من الكهرباء، وافقت مدينة نيويورك الأميركية على هدف إنتاج 50 في المائة من الكهرباء عن طريق الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، ومثلها فعلت مدينة واشنطن فقد وافقت أيضاً على هدف 50 في المائة من الكهرباء عن طريق الطاقة المتجددة بحلول عام 2032، وباتت اليوم ثلاث مدن أميركية معتمدة على مصادر الطاقة المتجددة بنسبة 100 في المائة وهي على التوالي مدينة غرينسبرج بولاية كانساس منذ عام 2013، ومدينة برلنغتون بولاية فيرمونت منذ عام 2014، ومدينة أسبن بولاية كولورادو منذ عام 2015، بالإضافة لسبع مدن أخريات على قائمة المدن التي سيكون اعتمادها كلياً على الطاقة من مصادرها المتجددة كحد أقصى حتى عام 2035، وأصبحت اليوم مصادر الطاقة المتجددة تمثل ثاني أكبر مصدر لإنتاج الكهرباء في العالم، ولم تصل نسبة مشاركة الطاقة المتجددة من إنتاج الطاقة الكهربائية في العالم أكثر 27 في المائة حتى يومنا هذا.
أصبح ممكناً اليوم الحديث أن سوق الطاقة المتجددة ومشاريعها سوف تكون الرائدة للمائة سنة القادمة بسبب الحاجة الماسّة للتقليل من تلوث البيئة، والأضرار الناجمة عنها، ومع تقلبات أسعار النفط العالمية، نرى أنه أكثر الدول المتضررة من انتشار مصادر طاقة بديلة عن الوقود التقليدي هي الدول المنتجة والمصدرة للنفط.
فعند محاولتنا رسم خط بياني تصاعدي لما ستكون عليه الطاقة المتجددة في السنوات المقبلة في عالمنا العربي قد تصطدم بواقع آخر، وهي الدول التي لا ترغب أو تحبذ أن تكون هناك مصادر طاقة بديلة عن النفط، وهذا الواقع يتجلى عربياً في دول الخليج، بينما هي تريد بيع المزيد من النفط ومرتبكة من انخفاض أسعاره ومطالبة بالاتجاه نحو هذه المصادر واستخدامها في بلدانهم، تدرس وتنشئ محطات شمسية للطاقة بديلة عن النفط؛ لأنها مطالبة بالعولمة أكثر من غيرها، وهذا ما تسعى إليه دائماً، لكنه يتعارض وفق ما
تتمناه.
لذلك عليها أن تسعى جاهدة إلى تنويع مصادر دخلها وتغيير سياستها الاقتصادية وتعزيزها بمصادر دخل أخرى، والكف عن أمنياتها بارتفاع أسعار النفط من جديد، فإن لم تفعل ذلك فسوف تكون مثل الورقة بين فكّي مقص، وستصطدم بواقع عالمي جديد يبحث عن الطاقة من مصادر متجددة، فإن لم ترتفع أسعار النفط ولم يصلحوا اقتصاداتهم ولم يستثمروا بقطاع الطاقة المتجددة، فيصبحون وكما نقول بالمثل العامّي: "طلعوا إيد من ورا وإيد من قدام".
أخيراً، سوق الطاقة المتجددة تُبشر بالمزيد فقد انخفضت أسعار الألواح الشمسية 80 في المائة عمّا كانت عليها قبل خمس سنوات فقط، وأصبح تقنيات استخدامها في مُتناول الجميع دولاً وأفراداً، ومع اكتشاف تقنيات جديدة لتخزين الحرارة الملتقطة من الشمس، وبذلك مواصلة عمل توربينات
البخار المستخدمة لتشغيل مولدات الكهرباء حتى في أوقات غياب الشمس، بذلك تُدشّن مرحلة جديدة تكون فيها النعم الربانية "الشمس والرياح والمياه" سيدة هذا العالم والمساهمة في تقليل تلويثه وحفظ ثرواته.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.