عام مضى على فراقك حبيبتي، أمي وأم زوجي أو حماتي، كما تعود الناس أن يقولوا، تأخذني الذكريات وتعود بي إلى ذلك اليوم الذي جئت فيه بيتنا للمرة الأولى؛ لترى عيناك تلك الفتاة الصغيرة ذات الخمسة عشر ربيعاً عروس ابنك المنتظرة.
ومرت الأيام سريعاً ووجدت نفسي وأنا بنت الثامنة عشرة عروساً لولدك الوحيد، أسكن معك في نفس البيت، وأشهد الله أنك كنت أماً لكلينا، دامت بيننا عِشرة طويلة تعلمت فيها منك الكثير والكثير تحملت فيها جهلي بالبيئة التي انتقلت إليها بعد زواجي وصغر سنّي، كنت حليمة صبورة معلمة حافظة لسرّي، ولعلي أذكر بعض المواقف التي لا تمحى من ذاكرتي أبداً:
* لما انتقلت بعد زواجي إلى القرية، وكان الماء كثير الانقطاع فيها ما زلت أذكر لها كيف كانت تخرج لتملأ لي الماء وهي الحماة كبيرة السن؛ لأنها كانت تعرف أني لا أجيد حمل الماء.
فكانت خير معينة ومتفهمة وما كانت متعنتة أبداً معي فيما لا أجيد من خبز أو مهارات أخرى تجيدها بنات القرية، وكانت كلمتها التي لا أنساها (اللي ليه عين وراس يعمل ما يجيده الناس).
* كانت أمي -جعل الله قبرها جنةً- صوامة، قوّامة فوالله ما رأيت أحداً يحرص على صيام الإثنين والخميس والثلاثة البيض من كل شهر، وأغلب رجب ومعظم شعبان، ورمضان والستة البيض مثلها ما يمنعها مانع أبداً، حتى إنها في مرضها الأخير منعها الطبيب من صيام رمضان فحزنت جداً، فلما طمأنها أبو عمر بأننا سنخرج كفارة قالت: دي لرمضان طيب والستة البيض!!
وكنا إذا انشغلنا معاً في المطبخ نعد الطعام، فأذن المؤذن تهمّ مسرعة في الوضوء وقبل الإقامة تكون على سجادة الصلاة حتى تدرك الجماعة، فأقول لها: ما زال في الوقت سعة، فكان ردها عليَّ: السعة هتيجي لما نحط حق ربنا الأول.
كانت لا تترك أبداً سُنة الوضوء، ولا ركعات الضحى الكثيرة، وبعد الفجر تظل تدعو الله وتسبح حتى تسمع قراءة الشيخ محمد رفعت في الراديو، فتعرف أنها السابعة والنصف صباحاً، ولما كنت أسألها بتدعّى لمين ده كله يا نينة؟ كانت تقول لي: بدعي للكل يا بنتي للمسلم ربنا يحميه، وللنصراني ربنا يهديه.
* كانت أمي الغالية الحاجة أمينة من الصابرات المحتسبات، فقدت الكثير من أولادها صغاراً، وكانت إذا توفّي ابنها تقوم تغسله وتصلي ركعتين وتخبر زوجها الذي كان قريب الدمع فيبكي فتشد من أزره وتقويه، وتقول: ما تحزنش يا علي، نبينا الهدى جرى له كده صلى الله عليه وسلم، مات لها ما يقرب من ٧ أولاد وبنات، ولم يبق الله لها غير أبو عمر وأخته.
ولا أنسى يوم ابتلائها في أغلى الناس عليها -أبو عمر حفظه الله -يوم اعتقاله فكانت تبكيه بحرقه وفِي صمت حتى فقدت إحدى عينيها من كثرة الحزن والبكاء، ومع ذلك تقول: راضيين بعطائك وقسمتك يا رب.
* علمتني -غفر الله لها- أننا إذا جاءنا طارق يطلب حسنة أو معونة فكانت تعطيه ما تقدر عليه ولا ترد سائلاً أبداً، ولو لم يكن المال متوفراً في البيت تقدم له من الطعام الذي أكلناه أياً كان.. وكانت تقول لي: إذا أعطيت السائل الصدقة فأعطيه ولا تنظري إلى وجهه أبداً حتى لا تري في عينيه المذلة والانكسار.
* علمتني -رحمها ربي وأوسع مدخلها- الرحمة بالبهيمة الخرساء، فكانت حريصة جداً على إطعام ما نربي في البيت من طيور ودواجن ثلاث وجبات بانتظام وكانت هذه نقطة خلافنا.
ولأنني لم أكن متعودة على هذه الأمور كنت أرى أن نضع كمية كبيرة للطيور مرة واحدة وخلاص.. لكن كان لها نظرية غريبة في الأمر، فكانت تقول: يا بنتي الفرخة زي الطفل الصغير لو وضعتي أمامه الأكل كتير هيعك فيه ويرميه ومش هيشبع، لكن لو حطيتي له حبة صغيرة بحبة، يخلصهم وياكل كويس.. وكان أحلى منظر بحبه جداً لما كانت تاخد الأكل وأول ما تدخل العشة كل البط والفراخ يجروا عليها ويكاكوا وهي بهدوء ورويّة تقول وكأنهم يفهمون حديثها: من صبر نال، من صبر نال بالراحة وكلكم هتاكلوا.
وكانت لما تكيل الحُبوب التي ستزرع في الأرض فتزيد مكيالاً، وتقول: وده للعصافير ففي كل كبد رطبة أجر.
* وكانت أمي كريمة كرم من لا يخشى الغد فعلاً، والله ما دخل علينا ضيف في ليل أو نهار إلا وحرصت على إطعامه وتقديم أحسن ما في البيت له مهما كان، ولما كنت أطلب منها الانتظار لعل الضيف لن يأكل فكانت تقول: ده ضيف الله واللي يِكرمه يُكرم. وكانت حافظة لأروع الكلمات والأمثال التي حفظتها عنها.. فكانت إذا رأت ابناً أو بنتاً عاقّين بأمهم تقول: الأصل مني وأنا اللي في الوادي جريت.. خلّفت خشبٍ وحطبٍ وأنا اللي بالنار انكويت.. تشير إلى الماء الذي يجري في الأراضي فيسقي الأشجار حتى تقوى وتصير خشباً فيوقد به النار ليُقطع الماء بالغليان وكانت أحلى لحظاتي معها عندما كانت تعجن الخبز وتمتم: بِسْم الله عجنتك، وبالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وصلاتي ع الحبيب فايدة وغنيمة، اشرب شرابك ما عذاب إلاّ عذابك (إشارة للنار التي يسوى فيها الخبز) يجعلك في الحنك سكرة وفِي العين جوهرة، بطن كلتك تشبع، عين شافتك تقنع، يجعلك للغلابة والمساكين، ولا يجعل فيك لأولاد الحرام سبيل.
وبعد ما تخلص ترش رشة دقيق على العجين وتقول: سترتك في الدنيا ربي يسترني في الآخرة. ولما كانت تزعل من حاجة تقول: ليه كده يا دنيا بتلفي ع الفاضي، واللي كان غفير صبح قاضي، ورضينا بالهم والهم مش راضي.
* وكانت مع كبر سنها إذا كنا على طعام ونقص شيء لا تطلب من أحد أبداً وتقوم بصعوبة لتقضي حوائجها بنفسها ولما كنا نعاتبها في ذلك، وأن تريح نفسها وتطلب من الأولاد حواليها، فتقول: من جعل الصغير خَدَمَه يا عَدَمَه.
* كانت مسلمة راضية عابدة بالفطرة، عرفت معها معنى قوله تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) فبعض الناس يملكون بصيرة قوية وقدرة على التفريق بين الحق والباطل والصالح والطالح قد يفقدها أصحاب العلم والثقافة والفكر، فتجدهم لم يتلوثوا بفلسفات المتفلسفين وشطحات المفكرين فكانت فطرتهم النقية، دليلهم لله الحق وبه عرفوا حق الله.
تسألني صديقة لي كل هذا الحب لحماتك ليس من الممكن أن تكون حياتكما كلها حباً وتفاهماً.. كيف ذاك والناس بتقول (الحما عمى لو كانت ملاك من السما) و(إن كان القمح قد التبن تبقى الحما تحب مرات الابن)؟
تبسمت ضاحكة وقلت لها: هذه الأمثال وما شابهها هي التي أفسدت العلاقات الاجتماعية بين الحماة وزوجة ابنها.
تدخل الفتاة بيت زوجها وهي مشحونة تماماً بهذه الأمثال والمشاعر السلبية تجاه أم زوجها، فكل من يحيط بها يشحنها بالوصايا المصيبة: إوعي تسكتي لها على حاجة الكلمة تردي عليها بعشرة من أولها كده.
تدخل بيتك تقعديها زي الضيفة ولا تسمحي لها بالتدخل في أمورك.
نسّي زوجك أمه وأكلها ونظامها وحاولي تقللي من شأن كل شيء يخصها.
وغيره وغيره فتصبح كل كلمة من أم الزوج لها معنى آخر وكل إيماءة هي تلميح على زوجة ابنها وكل ضحكة هي استهزاء بها.. العلاقات الاجتماعية بصورة عامة تختلف بحسب النفسية والتربية والبيئة تختلف الفتاة مع أمها وأختها وخالتها وعمتها فيكون شيئاً طبيعياً.. ولكن بين الحماة وكنتها كما يقول إخواننا في الشام فتقوم الدنيا ولا تقعد وتنشأ العداوة والقطيعة ويصبح الزوج في وضع لا يحسد عليه مخيراً بين بر أمه والحفاظ على بيته وكرامة زوجته.. لا أنكر أن هناك بعض الحموات يصعب معاشرتهن، ويصدر منهن بعض الظلم لزوجات الأبناء، وكذلك أرى بنفسي سوء معاشرة بعض الزوجات لحماتها وعدم تحملها لها.. والأمر قائم بين الناس وخاصة الزوجة وحماتها على حسن الخلق، وسماحة النفس، والبذل والعطاء، وتحبب كل طرف للآخر بما يحب من هدايا أو طعام طيب أو مساعدة ومعونة في موقف ما.
إن طريقة النظر من ناحيتنا للمشكلة هو مايضخمها أو يضعها في إطارها ومكانها الصحيح، ومعرفة كلا من الزوجة والحماة بشخصية الآخر، وتقدير الإختلاف العمري والبيئي والتربوي جزء كبير من العلاج، وغض الطرف عن بعض التلميحات، والتغافل لبعض التصرفات من وسائل التخفيف من حدة المشاكل الواقعة على أتفه الأسباب .
فالإنسان أسير الإحسان، وكما تدين تدان ولا ضير من بعض صبر وتحمّل الصغير للكبير، وكظم الغيظ من كليهما، فمن أراد الأجر فلا بد له من تحمل المشقة.
وفي الختام.. أدعو الله أن يصبرنا على فراقها وعلى لوعة قلوبنا بعد أن حرمنا من خدمتها وبرها حية وتشييعها لمثواها الأخير بعد الفراق، رحمات الله عليك يا أمي، وغفر الله لكِ وأسكنك فسيح جناته، وألحقنا بك غير فاتنين ولا مفتونين، وصبّر قلوبنا على وداعك من غير نظرة وَصل ولا وصية مفارق، وانتقم الله لنا ممن شردونا وأبعدونا وحرمونا منك.
وإلى لقاء في جنات النعيم عند ملك كريم حيث لا بُعد ولا حرمان ولا فراق.
حماتي رحمة الله عليها
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.